اليس هذا الكلام المترجم شرحاً دقيقاً لقول البوصيرى :
وإذا حلت الهداية نفساً
نشطت للعبادة الأعضاء !
وتمهيداً حسناً لقول ابن الرومى :
أمامك فانظر أى نهجيك تنهج
طريقان شتى مستقيم وأعوج
واقرأ هذه الكلمات أيضاً فى المقال المترجم : " رب رجل وقع من الحياة فى مثل الأرض الموحلة فكادت تبتلعه، ولكنه ظل يجاهد للنجاة مستيئساً، وبينا هو كذلك انهارت قواه وشق عليه الجهاد وأسرعوا به إلى الطبيب .. الطبيب لم يجد بجسده علة ظاهرة . كل ما يحتاج إليه الرجل ناصح يعلمه كيف ينازل الحياة وجهاً لوجه لا تثنيه عقبة ولا رهبة ".
إن هذا الكلام يذكرنى بما روى عن جعفر الصادق : من طلب ما لم يخلق تعب ولم يرزق ! قيل وما ذاك ؟ قال : الراحة فى الدنيا .
وأنشدوا :
يطلب الراحة فى دار الفنا
خاب من يطلب شيئاً لا يكون
إن التربية التى ننشدها نحن المسلمين ليست بدعاً من التفكير الإنسانى الراشد، إنها صياغة الأجيال فى قوالب تجعلها صالحة لخدمة الحق وأداء ضرائبه، واحتقار الدنيا يوم يكون الاستمساك بها مضيعة للإيمان ومغاضبة للرحمن ..
والاستعمار يوم وضع يده على العالم الإسلامى من مائة سنة صب الأجيال الناشئة فى قوالب أخرى، نمت بعدها وهى تبحث عن الشهوات وتخلد إلى الأرض، فلما ختلها عن دينها بهذه التربية الدنيئة استمكن من دنياها فأمست جسداً ونفساً لا تملك أمرها، ولا تحكم يومها ولا غدها ..
بل إنها فى تقليدها للعالم الأقوى تقع فى تفاوت مثير :
عندما ننقل المباذل ومظاهر التفسخ فى الحضارة الغربية ننقلها بسرعة الصوت، أما عندما ننقل علماً نافعاً وخيراً يسيراً فإن ذلك يتم بسرعة السلحفاة .
وكثير من الشعوب الإسلامية تبيع ثرواتها المعدنية والزراعية بأكوام من المواد المستهلكة وأدوات الزينة والترف مع فقرها المدقع إلى ما يدفع عنها جشع العدو ونياته السود فى اغتيالها وإبادتها !
وظاهر أن هذا السلوك استجابة طبيعية لأسلوب التربية الذى أخذت به منذ الصغر، وأثر محتوم لاتخاذ القرآن مهجوراً، ونبذ تعاليمه وقيمه، وهل ينتج ذلك إلا طفولة تفرح باللعب المصنوعة والطرف الجديدة والملابس المزركشة، والمظاهر الفارغة ؟
ولا بأس بعد توفير ذا كله من استصحاب بعض الآثار الدينية السهلة !
ولتكن هذه الآثار الاحتفال بذكرى قديمة أو زيارة قبر شهير !
ثم يسمى هذا السلوك التافه تديناً !
لقد جرب المسلمون الانسلاخ عن دينهم واطراح آدابه وترك جهاده فماذا جر عليهم ذلك ؟ حصد خضراءهم فى الأندلس فصفت منهم بلاد طالما ازدانت بهم وعنت لهم، وما زال يرن فى أذنى قول الشاعر :
قلت يوماً لدار قوم تفانوا
أين سكانك العزاز علينا ؟
فأجابت هنا أقاموا قليلاً
ثم ساروا ولست أعلم أينا !
أسمعت هذا النغم الحزين يروى فى اقتضاب عقبى اللهو واللعب، عقبى إضاعة الصلوات واتباع الشهوات .. إن عرب الأندلس لم يتحولوا عن دارهم طائعين ولكنهم خرجوا مطرودين .
أفلا يرعوى الأحفاد مما أصاب الأجداد ؟
لقد قرأت أنباء مؤتمرات عربية وإسلامية كثيرة اجتمعت لعلاج مشكلة فلسطين، فكنت أدع الصحف جانباً ثم أهمس إلى نفسى : هناك خطوة تسبق كل هذا، خطوة لا غنى عنها أبداً :
هى أن يدخل المسلمون فى الإسلام ..
إننى ألمح فى كل ناحية استهانة بالفرائض، وتطلعاً إلى الشهوات، وزهادة فى المخاطرة والنقب وإيثاراً للسطوح على الأعماق والأشكال عن الحقائق، وهذه الخلال تهدم البناء القائم . فكيف تعيد مجداً تهدم أو ترد عدواً توغل ..؟
ما أحرانا أن نعقل التحذير النبوى الكريم " إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى " فإذا أصغينا إلى هذا النذير ابتعدنا عن منحدر ليست وراءه إلا هاوية لا قرار لها، ثوى فيها قبلنا المفرطون والجاحدون .
دين زاحف مهما كانت العوائق
كلما قرأت أبواب الفتن فى كتب السنة شعرت بانزعاج وتشاؤم، وأحسست أن الذين أشرفوا على جمع هذه الأحاديث قد أساءوا ـ من حيث لا يدرون ومن حيث لا يقصدون ـ إلى حاضر الإسلام ومستقبله !
لقد صوروا الدين وكأنه يقاتل فى معركة انسحاب، يخسر فيها على امتداد الزمن أكثر مما ربح !
ودونوا الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها القريبة فظهرت وكأنها تغرى المسلمين بالاستسلام للشر، والقعود عن الجهاد، واليأس من ترجيح كفة الخير لأن الظلام المقبل قدر لا مهرب منه .
وماذا يفعل المسلم المسكين وهو يقرأ حديث أنس بن مالك الذى رواه البخارى عن الزبير بن عدى قال : شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج فقال : اصبروا فإنه لا يأتى عليكم زمان إلا الذى بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم " !!
وظاهر الحديث أن أمر المسلمين فى إدبار، وأن بناء الأمة كلها إلى انهيار على اختلاف الليل والنهار !
... نذكرها، كما يخالف الأحداث التى وقعت فى العصر الأموى نفسه !
فقد جاء الوليد بن عبد الملك فمد رقعة الإسلام شرقاً حتى احتوت أقطاراً من الصين وامتدت رقعة الإسلام غرباً حتى شملت أسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا .
ثم تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز فنسخ المظالم السابقة، وأشاع الرخاء حتى عز على الأغنياء أن يجدوا الفقراء الذين يأخذون صدقاتهم !
ولقد أتى بعد أنس بن مالك عصر الفقهاء والمحدثين الذين أحيوا الثقافة الإسلامية وخدموا الإسلام أروع وأجل خدمة، فكيف يقال : إن الرسالة الإسلامية الخاتمة كانت تنحدر من سيئ إلى أسوأ ؟؟ هذا هراء .
الواقع أن أنساً رضى الله عنه كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة بالطريقة التى شاعت فى عهده ومن بعده، فمزقت شمل الأمة، وألحقت بأهل الحق خسائر جسيمة، ولم تنل المبطلين بأذى يذكر .
ـ وأنس بن مالك أشرف ديناً من أن يمالئ الحجاج أو يقبل مظالمه، ولكنه أرحم بالأمة من أن يزج بأتقيائها وشجعانها فى مغامرات فردية تأتى عليهم، ويبقى الحجاج بعدها راسخاً مكيناً !
ـ وتصبيره الناس حتى يلقوا ربهم ـ أى حتى ينتهوا هم ـ لا يعنى أن الظلم سوف يبقى إلى قيام الساعة، وأن الاستكانة الظالمة سنة ماضية إلى الأبد !
إن هذا الظاهر باطل يقيناً، والقضية المحدودة التى أفتى فيها أنس لا يجوز أن تتحول إلى مبدأ قانونى يحكم الأجيال كلها ..
لقد سلخ الإسلام من تاريخه المديد أربعة عشر قرناً، وسيبقى الإسلام على ظهر الأرض ما صلحت الأرض للحياة والبقاء وما قضت حكمة الله أن يختبر سكانها بالخير والشر .
ويوم ينتهى الإسلام من هذه الدنيا فلن تكون هذه دنيا لأن الشمس ستنطفئ والنجوم ستنكدر، والحصاد الأخير سيطوى العالم أجمع !
فليخسأ الجبناء دعاة الهزيمة وليعلموا أن الله أبر بدينه وعباده مما يظنون .
لقد ذكر لى بعضهم حديث " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " [ رواه أحمد
والجماعة ] وكأنه يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم، ويداهن الجائرين ويستكين للأفول الذى لا محيص عنه !
وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم .
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى صلاح الدين الأيوبى ما فكر فى استنقاذ بيت المقدس من الصليبيين القدامى!
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار فى " عين جالوت " !
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامى فى عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغانى إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق ما فكروا أن يخطوا حرفاً أو يكتبوا سطراً !
وقلت فى نفسى : أيكون الإسلام غريباً وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الإحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس ؟
يا للخذلان والعار !
الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التى سوف يواجهها الحق فى مسيرته الطويلة فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته بل ربما وصل فى جرأته على الإيمان أن يقتحم حدوده ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه !
وعندما تتجلى الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذى يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية والفكرية التى يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة، بل لعله يستأنف زحفه الطهور فيضم إلى أرضه أرضاً وإلى رجاله رجالاً .
وذلك ما وقع خلال أعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجىء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء فى بعض رواياته :
" طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتى " [ راجع فى روايات الحديث كلها كتاب " غربة الإسلام " لابن رجب الحنبلى ] فليست الغربة موقفاً سلبياً عاجزاً، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين حظوظاً أفضل .
وليس الغرباء هم التافهون من مسلمى زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة وتوكلوا على الله فى مدافعتها حتى تلاشت !
والفتن التى لا شك فى وقوعها والتى طال تحذير الإسلام منها فتنة التهارش على الحكم والتقاتل على الإمارة ومحاولة الاستيلاء على السلطة بأى ثمن، وما استتبعه ذلك من إهدار للحقوق والحدود، وعدوان على الأموال والأعراض .. وهذا المرض كان من لوازم الطبيعة الجاهلية التى عاشت على العصبية العمياء ..
والعرب فى جاهليتهم ألفوا هذا الخصام والتعادى، فهم كما قال دريد بن الصمة :
يغار علينا واترين فيشتفى
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
فما ينقضى إلا ونحن على شطر
وما رواه أحمد عن تميم الدارمى يؤيده ما رواه عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، أما الذين يعزهم الله فيجعلهم من أهلها وأما الذين يذلهم الله فيدينون لها " [ رواه ابن حبان كما فى الزوائد للهيثمى رقم ( 1621 ) وجماعة . راجع الأحاديث الصحيحة للألبانى (1 / 7 ) ] .
وكذلك ما رواه عن قبيصة بن مسعود : صلى هذا الحى من محارب ـ اسم قبيلة ـ الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن
عمالها ـ أمراءها ـ فى النار إلا من اتقى وأدى الأمانة " .
ويقول صاحب المنار فى نهاية تفسيره لقوله تعالى : " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم .. " : اعلم أن الاستدلال بما ورد من أخبار وآثار فى تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن على أن الأمة الإسلامية قد قضى عليها بدوام ما هى عليه الآن من الضعف والجهل كما يزعم الجاهلون بسنن الله اليائسون من روح الله، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة، وأن لسهمها قرطة بعد هذه النبوة كالآية الناطقة باستخلافهم فى الأرض ـ سورة النور ـ فإن عمومها لم يتم بعد، وكحديث " لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق " رواه أحمد ..
" والشطر الأول منه لم يتحقق بعد، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عن مسلم من أن ساحة المدينة المنورة سوف تبلغ الموضع الذى يقال له اهاب، أى أن مساحتها ستكون عدة أميال، فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين .. " ولتعلمن نبأه بعد حين " .
وخطأ كثير الشراح جاء من فهمهم أن ترك الشر هو غاية التدين وأن اعتزال الفتن هو آية الإيمان .
وهذا عجز سببه ضعف الهمة وسقوط الإرادة .
وإنى لأذكر فيه قول المتنبى :
إنا لفى زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان واجمال
أجل، فإن ترك الصغائر غير بلوغ الأمجاد، وتجنب التوافه والرذائل غير إدراك العظائم وتسنم الهام، والتلميذ الذى لا يسقط شىء والذى يحرز الجوائز شىء آخر !
والرسول الكريم عندما يأمرنا باعتزال الفتن لا ينهى واجبنا عن هذا الحد ..
سوف يبقى بعد ذلك الاعتزال الواجب بناء الأمة على الحق ومد شعاعاته طولاً وعرضاً حتى تنسخ كل
ظلمة ..
ولا نمارى فى أن تصدعات خطيرة أصابت الكيان الإسلامى قديماً وحديثاً .. بيد أن الضعاف وحدهم هم الذين انزووا بعيداً يبكون، ويتشاءمون، وينتظرون قيام الساعة !!
أما الراسخون فى العلم فقد أقبلوا على رتق الفتوق، وجمع الشتات، وإعادة البناء الشامخ حتى يدركهم الموت أو القتل وهم مشتغلون بمرضاة الله، حتى يبلغ الإسلام مواقع النور والظل من أرض الله أو كما قال الرسول العظيم " ما بلغ الليل والنهار " ..
قال الإنسان وقال الحيوان
نحن نعلم أن عدداً من حملة الأقلام قد صنعت رؤوسهم خارج هذه البلاد، وأن تصورهم لكثير من الحقائق وحكمهم فى كثير من القضايا لا صلة له بتراثنا ولا ارتباط له برسالتنا، وأن آخر ما يكترثون له أو يهتمون به هو الإسلام وحاضره ومستقبله، وإن كانت أسماؤهم إسلامية .
وكنت أحسب أن معركة المصير بيننا وبين بنى إسرائيل ستكرههم على مراجعة أنفسهم وتصحيح أخطائهم، ولكننى كنت واهماً .
لقد استيقظ بنو إسرائيل وهاجت فى دمائهم غطرسة الماضى، وانحرافات التدين ولوثات التعصب، وهجموا على بلادنا يبغون محو أمة وحضارة، وفى أيديهم كل ما استحدث العلم من أدوات الفتك !
وفى ملاقاة هذا العدوان تقرأ لكاتب روايات مصرى إنه مسرور من الجيل الحاضر لأنه يحسن الرقص والغناء !
قبحك الله من كاتب مكفوف البصيرة !
وفى هذا الاتجاه الضرير ينشر كاتب آخر مقالات مسهبة عن " الشخصية المصرية " يمهد فيها طريق الشهوة ويرسم لها الأهداف الوضيعة .
وتستغرب وأنت تقرأ فى صحيفة الأهرام مقالاته، فى أى عصر يعيش هذا الكاتب، ولأى جيل يكتب ؟
نعم لقد ذهب " توفيق الحكيم " إلى باريس لا ليسأل : كيف دخل الفرنسيون النادى الذرى ؟ ولا ليبحث كيف يحاول جواسيس الصهيونية سرقة أسرار طائرات " الميراج " ؟ ولا ليحقق كيف أقامت فرنسا قوة ثالثة تريد أن تضارع جبابرة الأرض ؟ لا .. إن شيئاً من ذلك لا يعنيه .
إنه ذهب ليزيد القراء العرب فهماً فى الأمور الجنسية، وليمد حريق الشهوات بوقود جديد يأتى على الأخضر واليابس ..
ذكر لنا الكاتب الجاد الناضج كيف أن زوجين لم يحسنا الوقاع ! وكيف أن طبيباً عالجهما حتى أحسناه ! وكيف شاهد مع الجمهور الفرنسى على " شاشة المسرح " : التطبيق العملى من الزوجين لما سمعاه وعرفاه من الطبيب، فظهرا عاريين يمارسان هذه العلاقة فى أتم وأكمل وجوهها " !
ويمضى كاتب الأهرام الوقور فى عرض ما راقه من صور فرنسية فيقول : " صادقت فى الحى " سينما " أخرى تعرض قصة عنوانها " الزواج الجماعى " .. جماعة من الأزواج الشباب اتفقوا بينهم على أن يعيشوا فى حياة مشتركة وأن يتقاسموا بينهم كل شىء وأن يناموا فى حجرة واحدة، ونساؤهم مشاع لمن شاء منهم، للزوج أن يعاشر من تروق له من زوجات زملائه، وللزوجة أن تختار ما تريد من أزواج زميلاتها، كل ذلك بالرضا التام من الجميع، وكأن الأمر رغيف خبز تتناوله الأيدى والأفواه .. ثم شاهدنا هذه العلاقات الجنسية تتم أمامنا بكل تفصيلاتها التى تخدش الحياء .. " الخ .
ونترك صورة هذا القطيع من الفتيات والفتيان المتصالح على الزنا الجماعى أو على الفسوق القذر .. لنترك هذا القطيع فى جوه المنتن لنقرأ كاتب الأهرام الفيلسوف "!" وهو يقرر رأيه فى هذا الموضوع .. قال " جعلت أفكر فى الأمر مستعرضاً ما سبق من حضارات كبرى فوجدت بعض التشابه . إن سمة الحضارة فى كل عصر هى البحث عن الحقيقة، ولا حياء فى البحث عن الحقيقة، خصوصاً ما يتعلق بالإنسان وأسباب وجوده المادى والروحى، فكانت حضارة مصر القديمة والهند ترسم وتنحت فى المعابد بعض الأعضاء التناسلية رمزاً للحياة .. بل إن كتب الأدب العربى القديم لأمثال الجاحظ وابن عبد ربه كانت تتحدث عن الجنس كما تتحدث عن الطعام، وأكثر هذه الكتب لا يخلو من باب للطعام وباب للباه، وما كان أحد وقتئذ يرى فى ذلك بأساً ولا حرجاً، ولكن يظهر أنه عندما تأخذ الحضارات فى الانحطاط تكثر المحظورات، وتسدل البراقع على كثير من الموضوعات، إلى أن تمتد إلى روح المعرفة وعادة البحث فتصيبها بالشلل وبهذا يقتل العلم وتخسر الحضارة " .
هذا هو فكر كاتب الأهرام الكبير ودرسه لتاريخ الحضارات السابقة واللاحقة ..
وظاهر من أسلوب الكاتب أنه لا يدرى شيئاً عن قضايا الحلال والحرام، ولا عن شرائع السماء فى السلوك الخاص والعام، ولا عن الطور العصيب الذى يمر به تاريخ العرب، بل سنرى أنه لا يدرى عن تاريخ الحضارات البشرية إلا هذه الأجزاء المبتورة عن التماثيل المقامة لأعضاء التناسل، واقتران الطعام بالباه فى كتب الأدب العربى القديم !!
ومع هذا التطور المزرى فهو كاتب كبير يملك حق التوجيه للأجيال الجديدة من أعلى المنابر .
إن علماء الدين ما نادوا فى بلادنا يوماً ما بكبت الغريزة الجنسية، ونحن نقدس فطرة الله التى فطر الناس عليها، ونحترم رغبة الذكر والأنثى فى لقاء مقنع مشبع، وسبيل ذلك الزواج فحسب ..
أما تيسير الزنا وتكثير أسبابه وتمهيد سبله وقبول نتائجه فهو ارتكاس إنسانى يصحب الأمم عندما تبدأ شمسها فى الغروب .
وتاريخ الأمة العربية والإسلامية معروف بأنه لم يعترف بالرهبانية كما لم يعترف بتبرج الجاهلية واستباحة الأعراض على نطاق ضيق أو واسع، فوصف الزنا العام بأنه زواج جماعى كلام قذر، وأى تمهيد لقبوله ـ كما ألمح الكاتب ـ مردود فى وجه صاحبه .
ثم إن العرب خلال هذا القرن قد حاقت بهم رزايا متلاحقة ثم استطاع عدوهم أن يضع أصابعه على مقاتلهم، وها هو يشد قبضته على خناقهم ليوردهم الحتوف .
وصيحة العلم والإيمان التى ارتفعت بيننا الآن هى أمل الحياة، فلحساب من تغرى أفواج الشباب بالانحلال والتردى، ويحددها كاتب مسلوخ عن الإيمان والعقل لتنسى ربها وشرفها ويومها وغدها !
نحن نعلم أن أوربا ارتقت فى العصور الأخيرة ارتقاءً بعيد المدى، لكنه من أكذب الكذب أن يجىء بعض الكتاب المصريين ليزعموا أن سبب ارتقائها هو انسلاخها عن مناهج الفطرة ومقتضيات الأدب .
إن أسباب النهوض شىء ومظاهر الانحلال شىء آخر، ولكى نعرف تفاهة كتابنا وانحدارهم الذهنى والنفسى ننقل إليك ما كتبه المؤرخ الإنجليزى الكبير " أرنولد توينبى " لتدرك منه حقيقة ما يتعرض له الكيان الأوربى من أخطار .
إن الأمراض التى يتعرض لها هذا الكيان المهتز هى هى " الخصائص البراقة " التى يريد نقلها إلى بلادنا كتاب تائهون مثل توفيق الحكيم وغيره من ذوى الأسماء والمناصب !
قال توينبى [ نشر المقال بالإنجليزية مجلة الإسلام الباكستانية، وترجمته إلى العربية مجلة رسالة الإسلام العراقية التى تصدر عن كلية أصول الدين ببغداد، والمقال طويل نقلنا منه نبذاً ] تحت عنوان درس من التاريخ للإنسان المعاصر :
" لقد فشلت جميع جهودنا لحل مشكلاتنا بوسائل مادية بحتة، وأصبحت مشروعاتنا الجريئة موضع سخرية ! إننا ندعى أننا خطونا خطوات كبيرة فى استخدام الآلات، وتوفير الأيدى العاملة، ولكن إحدى النتائج الغريبة لهذا التقدم تحميل المرأة فوق طاقتها من العمل، وهذا ما لم نشهده من قبل، فالزوجات فى أمريكا لا يستطعن أن ينصرفن إلى أعمال البيت كما يجب ..
" إن امرأة اليوم لها عملان : العمل الأول من حيث هى أم وزوجة، والثانى من حيث هى عاملة فى الإدارات والمصانع، وقد كانت المرأة الإنجليزية تقوم بهذا العمل الثنائى فلم نؤمل الخير من وراء عملها المرهق، إذ أثبت التاريخ أن عصور الانحطاط هى تلك العصور التى تركت فيها المرأة بيتها ..
" فى القرن الخامس قبل الميلاد حين وصلت اليونان إلى أوج حضارتها كانت المرأة منصرفة إلى عملها فى البيت، وبعد مجىء الإسكندر الكبير وسقوط دولة اليونان كانت هناك حركة تسوية شبيهة بالحركة التى نشهدها اليوم ! ..
" لقد نسوا الله ( والكلام لتوينبى ) حين وضعوا حلولاً لمعالجة الأمراض الاجتماعية انتهت بالأمم إلى علل مستعصية ومآس كبيرة ..
" إن عصر الآلة أوجد لنا نقصاً لم يسبق له مثيل، نقصاً فى المساكن مثلاً، وخلق لنا فترات متناوبة من البطالة، ونقصاً فى الأيدى العاملة " .
ويقول توينبى : " لقد مشى الإنسان قديماً فى الطريق الذى مشى فيه اليوم، ووضع القواعد نفسها لتنظيم السير والمرور، والفرق الوحيد أن الأوائل استخدموا عربات الخيل بدل السيارات، وأن مخالفة تعليمات المرور لم تكن مروعة ومميتة كما هى اليوم ..
" إن التقدم الفنى والصناعى ليس بحد ذاته دليل الحكمة أو ضمان البقاء، وإن الحضارات التى انبهرت وقنعت بمهارتها الآلية إنما كانت تخطو خطوة نحو الانتحار ! ..
" إن أحد مصادر الخطر على عصرنا الحاضر هو أننا تربينا على عبادة الوطن وعبادة الراية وعبادة التاريخ الماضى ـ العنصرى ـ ويجب على الإنسان أن يعبد الله وحده وأن يتمسك بالقانون الإلهى فى تكامل الفرد والمجتمع، وإن فشلنا لمحتم عندما نحيد عنه " هكذا يقول توينبى .
ومن عباراته فى هذا المقال : " لقد أقنعتنى دراستى لإحدى وعشرين حضارة أن الثقافة الخلاقة هى فقط الثقافة الصحيحة، تلك التى تتمكن من حل المشكلات المستجدة فى الظروف المختلفة ..
" إن التقدم العلمى الحديث قد حل مشكلاتنا الصناعية بجدارة ..
" ولكن مشكلات العصر ليست من ذلك النوع الذى يحل فى المختبرات، إنها مشكلات معنوية، ولا علاقة للعلم بالقضايا المعنوية " .
يعنى : أن الأمر فى هذه الأحوال لمنطق الإيمان، ولذلك يقول :
" قد يبدو هذا غريباً ولكن المدنيات الكبيرة بلغت نضجها وضمنت تكاملها بالتغيير الروحى " !
نقول : إن المؤرخ الأوربى الغيور على حضارته يلمح أسباب اعتلالها ويصف الدواء بحذق، أما الصحافى المصرى فهو يذهب إلى مسرح عابث فيصفه بإعجاب، ويتذكر أن مصر والهند كانتا قديماً تقيم التماثيل لأعضاء التناسل !!
أى فكر هذا ؟ وكيف تتداعى المعانى المثيرة على هذا النحو فى ذهن أديب لتنشرها صحيفة كبرى ؟
ومتى ؟ فى أيام استعداد العرب لجولة أخرى مع بنى إسرائيل يحررون بها أرضهم ويدركون ثأرهم !
ما ننتظر غير هذا من أقلام شبت على العبث وشاخت فيه .. بيد أننا نلفت الشباب المسلم إلى حقائق قد تغيب عن ذهنه فى غمرة الأحداث .
إن أعيننا ترمق قوماً يكرهون الإسلام من أعماق قلوبهم ويتحينون الفرص للتنفيس عن ضغنهم بوسيلة أو أخرى .
وهؤلاء يغضبون عندما ننتسب ـ مجرد انتساب ـ إلى الإسلام ولا يتحركون أية حركة إذا تعصب المتعصبون لأية نحلة أخرى على ظهر الأرض .
على الشباب المسلم أن يرمق هؤلاء بحذر وأن يدرك ما فى خباياهم من سواد ..
فى يوم ما جاء إلى صحن الأزهر وفد يجمع بين جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار ولويس عوض وتوفيق الحكيم وآخرين لا أذكرهم ..
كان فيلسوف الوجودية وعشيقته مدعوين لزيارة القاهرة وإلقاء محاضرات بها ..
من الذى استقدم إلى عاصمة العروبة والإسلام هذا الفرنسى الكفور ليلقى فيها بذور انحلاله ؟!
لا يهم أن نعرف الأشخاص، وإنما المهم أن نحذر النيات المبيتة وأن نتقى التوجيهات المسمومة وأن نتبين الدائرة الواسعة التى يعمل فيها عدونا، لهدم عقائدنا ودك حصوننا فإن هؤلاء الأعداء كثيرون " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم " .
حول خرافة تحديد النسل
قرأت مقالاً عن " الانفجار السكانى وإمكانات التحكم " نشرته صحيفة الأهرام يوم الجمعة 2 / 1 / 1970 ولا أكون مغالياً إذا وصفت هذا المقال بأنه صائب الفكرة عميق النظرة مملوء بالحقائق الجديرة بالاحترام .
ولقد لفت عدداً من الدعاة المسلمين وعلماء الدين إلى هذا المقال لأنه يصور فى نظرى عودة أفكار سبق أن كتبتها ووقفت عندها، ورأى جمهور المسلمين أنها التعبير الحق عن أحكام دينهم ونهج حياتهم، وإن كان البعض قد مارى فيها مراء يعلم الله بواعثه !
والكاتب بعد مقدمات جيدة حول مشكلة النسل يقول :
إن تفسير الزيادة السكانية بغير التخلف الاقتصادى، أو رد هذه الزيادة إلى عوامل أخرى .
مثل غلبة الغريزة الجنسية،
أو وجود الأديان المحبذة للتناسل،
أو عدم المبالاة بالرقى ..
يدخل فى باب التضليل العلمى !
وقد استخلص هذه النتيجة الصادقة من جملة ملاحظات علمية واجتماعية جديرة بالتأييد الحار .
ويعجبنى أنه استهجن صيحات التشاؤم المفتعلة التى تخصص فى إرسالها بين الحين والحين نفر من مقلدى الأساليب الأمريكانية فى الإحصاء الجزئى والحكم العام، وهى أساليب تخدم سياسة معينة من البيانات والبلاغات التى يتبرع بها نفر من نجوم الرأى الأمريكيين يزعمون فيها أن العالم قد بلغ فى مسيرته نحو كارثة " اللاعودة " .
بسبب الزيادة المفرطة فى سكانه، تلك الزيادة التى نشأت من أن أقطار العالم الثالث ـ الذى يضم عشرات من الدول النامية أو بتعبير آخر عشرات من الدول المتخلفة ـ لم تكبح جماح شهواتها الجنسية، ولم تستجب لدعوة المندوب الأمريكى إلى " تخطيط " أو تحديد النسل الذى رأى سيادته أنه الطريق الوحيد لحسم المشكلة السكانية ..
بل لم يستح نفر من قادة الرأى فى الولايات المتحدة أن ينادوا جهراً بضرورة استخدام القسر فى الحد من هذا التفوق العددى للمراتب السفلى من البشر (!) بالقدر الذى يمنع دفع المراتب الأعلى إلى الخلف !
ولما كانت نسبة الأولاد تكاد تكون ثابتة من عشرات السنين فإن الزيادة المحذورة نشأت للأسف من قلة الوفيات بسبب ارتفاع المستوى الصحى فى أرجاء العالم .
والحل ؟
إنه عند أرباب الثقافة الغربية الرفيعة عدم مقاومة العلل بين شعوب لا تجد الأكل، وترك الأمراض تفتك بهذه الأجيال الوافدة فإن إقحام طوفان من الأطفال الجياع على اقتصاد مضطرب يهدد بكارثة !
لكن كيف يوصف هذا التصرف ؟
إنه تصرف " إنسانى " عادى (!) لأنه يساعد الطبيعة على انتخاب الأصلح وإبقاء الأقوى !
بل إن هذا التصرف يتفق مع أرقى ثمرات الفكر الإنسانى، ألم يقل أفلاطون فى جمهوريته الفاضلة أنه يجب قتل كل طفل يزيد عن العدد الضرورى ؟ ونحن قد وصلنا بالفعل إلى ما يزيد عن العدد الضرورى .
ويستتبع الفكر الغربى أحكامه على الأمور، فيقول الدكتور " هوايت ستيفنز " أحد خبراء علم الاجتماع : إن يوم القيامة سيوافق 13 / 11 / 2026 لأن المجاعة العالمية فى هذا اليوم ستقضى على الجميع، هكذا يقول الدكتور الألمعى بعد حساب وفق قواعد علم الاجتماع لا قواعد علم التنجيم !
وبناء على هذا الهوس الإحصائى يدعو الأمريكيون إلى التعقيم الإجبارى وإلى فرض نظام صارم لتحديد النسل، وإلى دعوة الأمم المتحدة إلى إجراء ما كى ينخفض عدد الأولاد بين العرب والزنوج والهنود وأشباههم وهم سواد العالم الثالث .
ويلاحظ الأستاذ كمال السيد ـ كاتب المقال ـ أموراً ذات بال منها أن الولايات المتحدة تنفق 70 ألف مليون دولار على معدات القتال وأن شركاتها المحتكرة تعامل شعوب العالم الثالث بنهم مستغرب لا مكان معه للرحمة بهؤلاء الجياع المساكين .
ويقول " وهناك صيغة شائعة فى أمريكا الجنوبية فحواها " :
أن خمسة من سكانها يموتون جوعاً كل دقيقة فى حين أن الشركات الأمريكية العاملة بها تكسب خمسة آلاف دولار كل دقيقة أى ألف دولار من كل ميت .. !
ومع شعورنا بأن الكاتب يسارى النزعة إلا أننا نعرف أن المساعدات الأمريكية مغشوشة النية سيئة الهدف فقد توزع على الأطفال مقادير من الألبان والجبن، ولكنها تفرض على بيئتهم قيود الفقر الأبدى إلى هذا النوع من المساعدات .
وبرامج النقطة الرابعة توزع المواد الاستهلاكية وحسب على الأمم المتخلفة وتمتنع امتناعاً غريباً عن تصنيع البيئة وإعانتها على أن تخدم نفسها بنفسها، وتستغل مواردها الوطنية بقدراتها الخاصة !
كأن شعوب هذا العالم الثالث ـ كما تسمى ـ ينبغى أن تظل مشلولة المواهب مكشوفة العجز، لا تستطيع الانتفاع بما لديها من خبرات .
وعليها ـ بعد ـ أن تسمع الحكم بأن التعقيم الإجبارى واجب، وأن تحديد النسل فريضة وإلا قامت القيامة بعد كذا من السنين !
ويتلقى هذا الكلام بعض قصار العقل فيطيرون به هنا وهناك ينذروننا بالويل والثبور وعظائم الأمور فإذا حاولنا التفاهم معهم قالوا : إنكم رجعيون تائهون عن مقررات علم الاجتماع، وأخطار يوم القيامة الذى سيجىء حتماً من زيادة السكان !
ولنتناول الآن صميم المشكلة . هل حقاً أن بلاد العالم الثالث لا تكفى حاجات أهلها وبالتالى لا تتسع لمزيد من الأفواه التى تطلب القوت والأجساد التى تطلب الكسوة ؟
تلك هى الأكذوبة الكبرى التى يضخم الاستعمار صداها ويزعج الدنيا طنينها !
إن أقطار العالم الثالث مشحونة بخيرات تكفى أضعاف سكانه، بيد أن هذه الخيرات تتطلب العقول البصيرة والأيدى القديرة .
ولو رزقت هذه الأقطار المنكودة إنسانية نزيهة تستهدف إيقاظ الملكات الغافية والحواس المخدرة، وتطارد الخمول والوهن وتجند القدرات والخيرات، وتمنع التظالم والترف، وتضرب سياجاً منيعاً حول مصالح الشعوب يرد عنها غوائل الاستعمار بجميع أنواعه لكانت هذه الشعوب تحيا فى رغد من العيش تحسدها أقطار الغرب عليه ..
ليست المشكلة اقتصادية كما يزعم الخبثاء من المستعمرين، ومقلدوهم من الصياحين الذين يهرفون بما لا يعرفون .
الفقر فقر أخلاق ومواهب لا فقر أرزاق وإمكانيات !
ـ لماذا يكون المولود القادم أكالاً لا شغالاً، مستهلكاً لا منتجاً، عبئاً على الحياة لا عوناً على الحياة ؟
ـ لماذا تهون الإنسانية فى شأن هذه الأجيال الوافدة فيكون وجوده مبعث قلق لا مثال استبشار .
إن الجهود المادية والمعنوية التى يبذلها المتشائمون لقتل هذه الأنفس أو للحيلولة دون وجودها لو بذلت فى تصحيح الأخطاء الاجتماعية وتقويم الانحرافات العقلية لكانت أقرب إلى الرشد وأدنى إلى الغاية !
ولكن الاستعمار الأنانى الشره يريد التهام كل شىء لنفسه وحده، بل الأنكى من ذلك أنه يعترض طريق كل نهضة تصحح الأوضاع كى تبقى الأمور كما هى ويبقى منطقه السقيم فى علاج الأمور .
على أن تخلف العالم الثالث ليس علة أزلية ولا أبدية فقد كان الأوربيون والأمريكيون أسوأ حالاً منذ قرون تعد على الأصابع، وكانت الخرافة تفتك بعقولهم فتك الأدران والعلل بأجسامهم، فإذا صعدوا فى سلم الترقى وهبط غيرهم بعد رفعة أو بدأ لأول مرة يخطو على درب المدنية فلا معنى للاحتيال عليه والتشفى منه .
" كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم "
والأمر لا يستدعى أكثر من تغيير الظروف المؤثرة فى أحوال المجتمعات فهناك مكان ينبت العز ـ كما يقول المتنبى ـ ومكان ينبت الذل . وهناك آخر يوقظ العقل أو ينيمه .
والمعتوهون الذين يصرخون جزعين : قفوا نسل الأرانب حتى لا تقول الساعة، أو حتى ترقى الأمة .. لا يعلمون أن العالم الثالث لن يرقى ولو فقد تسعة أعشار عدده ما بقيت ظروف النفسية والفكرية جامدة على أوضاعها الحالية .
ونعود مع كاتب الأهرام لنبصر الواقع حيث يقول :
" إن موارد العالم خصوصاً موارد البلاد المتخلفة ما زالت تفوق كثيراً زيادة أعداد السكان، فالفائض الاقتصادى المحتمل يمكن تحويله إلى ضروب من النشاط المنتج بدلاً من أن يذهب إلى جيوب المرابين والوسطاء وملاك الأرض أو يتبدد فى وجوه السرف المختلفة ..
" وهذا الفائض هو ما يعرفه الاقتصاديون بأنه الفرق بين الإنتاج فى ظروفه الطبيعية وبين ما يعد استهلاكاً ضرورياً للجماعة المنتجة، ويقدر هذا الفرق بنحو 20 % من الإنتاج القومى، وهو يكفل عند استثماره زيادة سنوية فى الدخل تبلغ 8 %، وهذه الزيادة تكفى بل تفيض عن متطلبات الزيادة السكانية " .
الفقر الواقع أو المتوقع لا يعود إذن إلى علل طبيعية بل إلى سوء تصرف واضطراب إدارة، أو كما يقول الاقتصادى الأمريكى المشهور " بول باران " : " إننا يجب أن ندق ناقوس الخطر لا لأن القوانين الأبدية فى الطبيعة قد جعلت من المستحيل إطعام سكان الأرض بل لأن النظام الاقتصادى الاستعمارى يحكم على جموع كثيفة من الناس ـ لم يسمع بضخامتها من قبل ـ أن تعيش فى كنف الفاقة والتدهور والموت قبل الأوان " !
ثم أنهى الكاتب كلمته قائلاً : " إنه لا حل لمشكلات التخلف ومن بينها ضغط السكان على الموارد إلا بتنمية بلدان العالم الثالث لثرواتها، ومضاعفة اعتمادها على نفسها .. ثم على القدر الميسور من المعونات الأجنبية المنزهة ".
لقد قررت هذه الأحكام تقريباً فى كتابى " من هنا نعلم " المطبوع من ربع قرن، ولذلك فقد انشرح صدرى عندما قرأت هذه الأيام ما يزيد الحق وضوحاً ..
وما يبدد ضباباً كثيراً نشره فى أفق الحياة العامة أقوام قصار الباع طوال الألسنة، وإنى ـ إذ أؤكد المعانى
الآنفة ـ أوجه كلمة إلى نفر من المتحدثين باسم الإسلام أساءوا إلى حقائقه مراراً وهزموه فى مواطن كثيرة ..
إن الإسلام ليس هو بالدين المحلى لأهل الوجهين البحرى والقبلى، إنه دين القارات الخمس ! وداره الرحبة الخصبة تمزج بين أجناس كل هذه القارات فى أخوة جامعة لا تعرف الحدود الضيقة المفتعلة التى صنعها الاستعمار فكيف يعالجون مشكلة السكان وهم لا يدركون هذا الأساس المبين ؟
ثم إن هذا الدين يتعرض لحرب إبادة فى هذه الأيام من تحالف الصهيونية والاستعمار، فكيف تصدر الأوامر من رؤساء الأديان بتكثير الأتباع، ومباركة النسل، ويفتون هم بالتعقيم والتقليل ؟
إننى لا أدرى علة هذا الزيع ؟ أهى قلة العلم أم ليونة الضمير ؟
وتحذير آخر إلى هؤلاء : إن أحدهم يقع على الكلمة منسوبة إلى عمرو بن العاص أو غيره من الرجال فيطير بها غير آبه بقيمة سندها ولا مكترث بأنها ملتقطة من كتب تجمع الجد والهزل والخطأ والصواب ..
ولو فرضنا جدلاً نسبتها إلى عمرو، فما كلام عمرو بالنسبة إلى كلام الله ورسوله ؟
أرجو بعد كلمة الأهرام التى لخصتها فى مقالى أن تنتهى هذه المأساة ..
محنة الضمير الدينى هناك !
هذه سياحة سريعة داخل أقطار الفكر الدينى الغربى . ستفجؤنا أحكام ينقصها السداد، ومؤامرات يحبكها القدر، وضغائن لا تزال عميقة على طول العهد وامتداد الزمان !
ومن حقنا نحن المسلمين ـ وقد لفحتنا حرب بقاء أو فناء ـ أن ندرس الجبهة التى مسنا عدوانها وأن نزن ببصر حديد طبيعة العواطف الدينية التى تكمن أو تبرز خلف أحداث لا تبدو لها نهاية قريبة !
ولنبدأ بمقال نشرته مجلة كاثوليكية تطوعت بإسداء نصائحها الغالية لإسرائيل، وليست هذه النصائح الغالية أن يعترف اليهود بحق العرب وأن يعودوا من حيث جاءوا تاركين البلاد لأصحابها .. لا !
إن الضمير الدينى عند الصحيفة المتدينة جعلها تسدى نصحاً من لون آخر، لقد قالت لليهود :
" إننا احتللنا فلسطين قبلكم، وبقينا فيها سنين عدداً، ثم استطاع المسلمون إخراجنا وتهديم المملكة التى أقمناها ببيت المقدس، وذلك لأغلاط ارتكبناها، وها نحن أولاء نشرح لكم تلك الأغلاط القديمة حتى لا تقعوا فيها
مثلنا ! ..
" استفيدوا من التجربة الفاشلة كى تبقى لكم فلسطين أبداً ويشرد سكانها الأصلاء فلا يخامرهم أمل العودة !"
وشرعت الصحيفة التقية تشرح : لماذا انهزم الصليبيون الأقدمون وتوصى حكام " إسرائيل " بأمور ذات بال، وتحرضهم فى نذالة نادرة أن يوسعوا الرقعة التى احتلوها، وأن يستقدموا أفواجاً أكثر من يهود العالم، وأن يحكموا خطتهم فى ضرب العرب ومحو قراهم وإبادة خضرائهم، وبذلك يستقر ملك إسرائيل ويندحر الإسلام والمسلمون .
وهاك أيها القارئ عبارات المقال الذى نشرته مجلة " تايلت " الإنجليزية الكاثوليكية للكاتب ( ف . س اندرسون ) فى العدد الصادر فى 26 / 10 / 1957 .
يقول الكاتب المذكور " إن نظرة واحدة إلى خارطة حدود إسرائيل الحالية تعيد إلى الذاكرة للفور أوجه الشبه القوية بين تلك الحدود وحدود مملكة الصليبيين التى قامت عقب احتلال القدس 1099 م ..
" ونظراً إلى الأعمال العدائية بين إسرائيل وجيرانها نرى من المفيد أن نقارن بين الحالة العسكرية الراهنة وبين مثيلاتها فى أيام الصليبيين، ولعلنا نرى ما إذا كان سيتاح لإسرائيل خط أفضل مما كان للصليبيين القدامى أم سيلقون مصيرهم ؟ ..
" إن مملكة الصليبيين لم يكتب لها البقاء إلا أمداً قصيراً وقد مكثت ثمانية وثمانين عاماً فقط ثم استرد المسلمون القدس ! ..
" ومع أن المسيحيين نجحوا فى الاحتفاظ بقطاع صغير شرقى البحر المتوسط مدة مائة عام أخرى إلا أنهم فشلوا فى الدفاع عن عكا أخيراً وأخذوا يغادرون هذه البلاد تحت جنح الظلام عائدين إلى أوروبا ..
" إن سقوط تلك المملكة كان يعود إلى بضع نقائص ظاهرة فإذا أريد لإسرائيل أن تعيش مدة أطول فما عليها إلا أن تحتاط ضد هذه النقائص ..
" لقد دخل الصليبيون فلسطين فى ظروف ملائمة جداً لهم، تميزت بوقوع الفرقة بين المسلمين، وعجزهم عن إقامة جبهة مقاومة موحدة ! ..
" وهكذا استطاع المهاجمون أن يهزموا المسلمين بسهولة، دويلة بعد دويلة، وأن يمكنوا لأنفسهم فى الأقطار التى فتحوها غير أنه لم يمض وقت طويل حتى ظهر زعيم عسكرى مسلم استطاع أن يوحد المسلمين أمام خصومهم بسرعة، ثم حشد قواهم فى معركة حطين وأصاب الصليبيين بهزيمة ساحقة تقرر على اثرها مصير القدس، بل انحسر بعدها المد الصليبى جملة، ودخل صلاح الدين الأيوبى مدينة القدس التى عجز أعداؤه عن استبقائها أو استعادتها فتركوها يائسين " .
يقول الكاتب الكاثوليكى : " كان الصليبيون يستطيعون البقاء مدة أطول فى تلك البلاد لو لم يعانوا نقصاً شديداً متواصلاً فى الرجال، ولو أنهم وسعوا حدود مملكتهم وفق ما تمليه الضرورات العسكرية الماسة، لماذا لم تحتلوا دمشق ؟ لقد كان احتلال دمشق مفتاح مشكلتهم وضمان بقائهم ! وسيظل عدم تقديرهم لهذه الحقيقة
لغزاً لنا ؟ ..
" نعم إنهم بذلوا جهوداً واهية لاحتلال تلك المدينة بيد أن محاولاتهم كانت من الضعف بحيث كتب عليها بالفشل " .
وبدلاً من أن يتابعوا جهودهم لاحتلال دمشق اتجهوا جنوباً واحتلوا العقبة وشرعوا يوجهون حملاتهم إلى مصر، مع أن الإشراف على النيل هدف عسير التحقيق !!
وعندما أصبحت للمسلمين اليد العليا فى ذلك العهد استطاعوا إجلاء الصليبيين عن العقبة وعن سائر حصونهم فى الجنوب، إلا أن الكارثة الكبرى جاءت من الشرق، فإن معركة حطين وقعت بالقرب من طبرية عند الزاوية الشمالية الشرقية لمملكة الصليبيين ..
ولما كانت دمشق والأرض الممتدة بين الأردن والصحراء السورية ملكاً للمسلمين فقد استطاعوا أن يتحركوا بحرية على ثلاث جبهات حول المملكة الصليبية التى أضحت شبه محصورة .. وذلك ما أعجزها عن المقاومة !
يقول الكاتب الحزين لما أصاب أسلافه : " ولو أن الصليبيين اندفعوا قدماً وقطعوا الممر الذى يؤدى إلى الشرق من دمشق لاستطاعوا منع مرور الجيوش والقوات بين سورية ومصر، ولكانت حدودهم الشرقية المستندة إلى الصحراء أكثر أماناً، ولأمكنهم الانتفاع من أساطيلهم البحرية " .
ثم يستأنف الكاتب الحاقد كلامه فيقول : " لقد أقيمت إسرائيل فى وقت كان العرب فى الدول المجاورة عاجزين عن القيام بعمل موحد، ثم بقدر كبير من الجهد والشجاعة استطاع اليهود أن يبلغوا حدودهم الحالية، لكن هذه الحدود تطابق حدود المملكة القديمة للصليبيين، وقد عرفنا مآلها فما العمل ؟ " .
يقول الكاتب محرضاً اليهود على مزيد من العدوان : " مرة أخرى ما لم تتحرك إسرائيل فى الاندفاع نحو دمشق فستبقى للعرب تلك الحرية الخطرة فى تنقيل قواهم حول ثلاث جهات من إسرائيل، وفى ذلك ما فيه " .
ويستطرد : " قد يكون من العسير سياسياً أن تتحرك إسرائيل لغزو سوريا واحتلال دمشق لكن الاتجاهات السياسية السورية قد تساعد على تسويغ ذلك، وإن مثل هذه النزهة الحربية ( ! ) ستنطوى على فائدة دائمة لإسرائيل أعظم من الفائدة التى تجنيها من التغلغل فى صحراء سيناء " .
ويختم الكاتب " نصيحته " لأصدقائه اليهود فيقول : " إن إسرائيل لن تنقصها القوى البشرية فلديها جيش كبير بالإضافة إلى هجرة منظمة من جميع أنحاء العالم تمدها بكل ما تفتقر إليه من طاقات ويجب أن تظل قادرة على وضع جيش قوى فى الميدان يكون دائماً على أهبة الاستعداد " .
لو أن كاتب هذا الكلام يهودى قح ما استغرب المرء حرفاً منه !
إن وجه العجب فى هذا التوجيه المشوب بالود لإسرائيل والبغض للعرب والمسلمين أن الكاتب مسيحى ينشر أفكاره فى مجلة كاثوليكية .
وهو يفكر ويقارن ويقترح كأن القضاء على العروبة والإسلام جزء من عقله الباطن والظاهر، ثم هو لا يشعر بذرة من حياء فى إعلان سخائه . إن مشاعر البغضاء المضطرمة فى جوفه تغريه بالاسترسال والمجازفة دون أن تهيب، ويحزننا أن الكلام ليس إبداء لوجهة نظر خاصة، فإن الكاثوليك فى أرجاء الأرض انتهزوا فرصة الضعف التى يمر بها الإسلام كيما يحولوها إلى هزيمة طاحنة وفناء أخير .
والروح الذى أملى بكتابة هذا المقال هو نفسه الروح الذى كمن فى مقررات المجمع المسكونى الذى عقده بابا روما وصالح فيه اليهود، وأمر الكنائس بعده ألا تلعنهم فى صلواتها .
وهو الروح الذى جعل " البابا بولس " يزور القدس ويدخل الأرض المحتلة ويتعامل مع سلطات إسرائيل، وهو تصرف لم يفعله أى بابا من مئات السنين !
وللقارئ المسلم أن يسأل : أذلك موقف الكاثوليك وحدهم ! أم أن أصابع الاستعمار الغربى قد أفسدت التفكير الدينى لدى كثير من المفكرين الغربيين .
قرأت كتاباً وجيزاً للمؤلف المصرى المنصف الدكتور وليم سليمان وردت به هذه الحقائق نذكرها مع تعليق سريع لا بد من إيراده . قال : " فى ديسمبر سنة 1961 عقد مجلس الكنائس العالمى مؤتمره الثالث فى نيودلهى، وأصدر قراراً حدد فيه موقفه من اليهود جاء فيه : لا بد من تهيئة التعليم الدينى المسيحى وتقريبه للأذهان على وجه يبرئ اليهود من تبعات الأحداث التاريخية التى أدت لصلب المسيح إذ إن هذه التبعات تقع على
عاتق الإنسانية كلها ( ! ) ..