الباب الثامن
لا دين حيث لا حرية
[ نشر هذا المقال بعد حركة 15 مايو التى قام بها فى مصر الرئيس السادات ]
أثلجت صدرى الكلمات التى قالها رئيس الدولة عشية نجت مصر من المؤامرة الأخيرة !
لقد أكد أن الحريات ستوطد، وأن الحقوق ستصان، وأن القانون سيسود، ولن تغل يد عن عمل شريف، ولن يكمم فم عن كلمة حق، ولن يؤذن لصغير أن يتطاول، ولا لمنحرف أن يجور !!
لقد استقبلنا هذه المعانى والأنفاس تكاد تختنق لما عراها من ضيق، فكانت نسائم منعشة تتسلل خلال جو رهيب مقنط، وكان بوارق رجاء توحى بالخير .
وأحس القابعون وراء جدران السجن الكبير أن العصابة التى تسومهم سوء العذاب بدأت تذوب وتتلاشى .
إن إذلال الشعوب جريمة هائلة، وهو فى تلك المرحلة النكدة من تاريخ المسلمين عمل يفيد العدو ويضر الصديق .
بل هو عمل يتم لحساب إسرائيل نفسها .. فإن الأجيال التى تنشأ فى ظل الاستبداد الأعمى تشب عديمة الكرامة قليلة الغناء، ضعيفة الأخذ والرد .
ـ ومع اختفاء الإيمان المكين والخلق الوثيق والشرف الرفيع .
ـ ومع شيوع النفاق والتملق والدناءة .
ـ ومع هوان أصحاب الكفايات وتبجح الفارغين المتصدرين .
.. مع هذا كله لا تتكون جبهة صلبة، وصفوف أبية باسلة !
وذلك أمل إسرائيل حين تقاتل العرب، لأنها ستمتد فى فراغ وتشتبك مع قلوب منخورة وأفئدة هواء !
والواقع أن قيام إسرائيل ونماءها لا يعود إلى بطولة مزعومة لليهود قدر ما يعود إلى عمى بعض الحكام العرب، المرضى بجنون السلطة وإهانة الشعوب .
ولو أنصف اليهود لأقاموا لهؤلاء الحكام تماثيل ترمز إلى ما قدموا لإسرائيل من عون ضخم ونصر رخيص !
من أجل ذلك أحسست راحة عميقة لكلمات السيد محمد أنور السادات، وهو يهدر بضرورة احترام الشعب وكسر كل قيد يوضع على مشيئته .
إن هذه السياسة البصيرة هى الخطوة الأولى لقتال حقيقى مع المعتدين يقمع غرورهم ويقلم أظفارهم !
إن جماهير العرب عطشى إلى الحرية والكرامة، ولقد بذلت جهود هائلة لمنعها من الحق والجد وتعويدها عبادة اللذة إلى جانب عبادة الفرد، ولكن جوهر الأمة تأبى على هذه الجهود السفيهة، وإن كانت طوائف كثيرة قد جرفتها هذه المحن النفسية فهى تحيا فى فراغ ومجون مدمرين، لا تبقى معهما رسالة ولا ينخذل عدو ..
ومن ثم كان العبء على المصلحين ثقيلاً، ولكن ما بد منه لحماية حاضرنا ومستقبلنا .
ولقد تبعت الصراع بين الحكام المستبدين والرجال الأحرار منذ نصف قرن، ودخلت فى تلك المعمعة لأذوق بعض مرها وضرها .
وكنت أردد بإعجاب صيحات الرجال الكبار وهم يهدمون الوثنية السياسية ويلطمون قادتها ولو كانوا فى أعلى المواضع .
من ذلك صيحة الأستاذ الكبير " عباس محمود العقاد " عندما قال معرضاً بالملك فؤاد : إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس يخون الدستور أو يعتدى عليه !!
وقد قدم الكاتب الإسلامى الكبير إلى المحاكمة ليعاقب تسعة شهور فى سجن مصر العمومى ثم خرج الرجل من السجن فكان أول ما صنع أن زار قبر سعد زغلول ليؤكد بقاءه على العهد وتأييده لقضايا الحرية وخصامه لأعداء الشعب !
ومن قصيدته التى ألقاها على قبره نذكر هذه الأبيات الشامخة :
خرجت له أسعى وفى كل خطوة
دعاء يؤدى أو ولاء يؤكد
لأول من فك الخطى من قيودها
أوائل خطوى يوم لا يتقيد
وأعظم بها حرية زيد قدرها
لدن فقدت أو قيل فى السجن تفقد
عرفت لها الحبين فى النفس والحمى
وكان لها حب وإن جل مفرد
وكنت جنين السجن تسعة أشهر
فها أنذا فى ساحة الخلد أولد
ففى كل يوم يولد المرء ذى الحجى
وفى كل يوم ذو الجهالة يلحد
وما أفقدت لى ظلمة السجن عزمة
فما كل ليل حين يغشاك مرقد
وما غيبتنى ظلمة السجن عن سنى
من الرأى يتلو فرقداً منه فرقد
عداتى وصحبى لا اختلاف عليهما
سيعهدنى كل كما كان يعهد
والعقاد بهذا الموقف الشريف ينتظم مع سلسلة الأبطال الذين يذودون عن الإنسانية بطش الجبابرة وجنون العظمة عند نفر من الملتاثين المتحكمين .
ولا أزال أكرر ما ذكرت فى بعض كتبى من أن الحريات المقررة هى الجو الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره !
وإن أنبياء الله لم يضاروا بها أو يهانوا إلا فى غيبة هذه الحريات، وإذا كان الكفر قديماً لم ينشأ ويستقر إلا فى مهاد الذل والاستبداد فهو إلى يوم الناس هذا لا يبقى إلا حيث تموت الكلمة الحرة وتلطم الوجوه الشريفة وتتحكم عصابات من الأغبياء أو من أصحاب المآرب والأهواء ..
.. نعم ما يستقر الإلحاد إلا حيث تتحول البلاد إلى سجون كبيرة، والحكام إلى سجانين دهاة .
من أجل ذلك ما هادنا ـ ولن نهادن إلى آخر الدهر ـ أوضاعاً تصطبغ بهذا العوج ويستشرى فيها ذلك الفساد .
ومرة أخرى أردد قول العقاد :
هو الحق ما دام قلبى معى
وما دام فى اليد هذا القلم !
إن البيئات التى تستمتع بمقادير كبيرة من الحرية هى التى تنضج فيه الملكات، وتنمو المواهب العظيمة، وهى السناد الإنسانى الممتد لكل رسالة جليلة وحضارة نافعة .
ولأمر ما اختار الله محمداً من العرب !
إن ذلك يرجع إلى طبيعته الذاتية، وطبيعة الجنس الذى ينميه على السواء !!
فإن العرب أيام البعثة كانوا أسعد الأمم بخطوط الحرية المتاحة لهم، بينما كان الروم والفرس جماهير من العبيد الذين تعودوا الانحناء للحكام والسجود للملوك وضياع الشخصية فى ظل سلطات عمياء وأوامر ليس عليها اعتراض.
أما العرب فكانوا على عكس ذلك، حتى لكأن كل فرد منهم ملك وإن لم يكن على رأسه تاج !
ونشأ عن ذلك الاعتداد الخطير بالنفس أن كفار القبيلة كانوا يموتون دفاعاً عن مؤمنيها، وكانت حرية الكلمة متداولة فى المجتمع تداول الخبز والماء ..
ووسط هذا الجو شقت رسالة الإسلام طريقها صعداً لم تثنها المعوقات الطبيعية التى لا بد منها ..
ومن الفطر القوية لأولئك العرب الأحرار كانت الانطلاقة التى عصفت بالحكومات المستبدة وبدلت الأرض غير الأرض والناس غير الناس .
ذلك أنه يستحيل أن يتكون فى ظل الاستبداد جيل محترم، أو معدن صلب، أو خلق مكافح .
وتأمل كلمة عنترة لأبيه شداد لما طلب منه الدفاع عن القبيلة، قال : إن العبد لا يحسن الكر والفر، ولكنه يحسن الحلب والصر ! فأجاب الوالد : كر وأنت حر !
وقاتل " عنترة " وتحت لواء الحرية أدى واجبه، ولو بقى عبداً ما اهتم بهلاك أمة من الناس فقد بينهم كرامته ومكانته ..
ومن مقابح الاستبداد أسلوبه الشائن فى إهانة الكفايات وترجيح الصغار وتكبيرهم تبعاً لمبدئه العتيد :
أهل الثقة أولى من أهل الكفاية .
ومن هم أهل الثقة ؟ أصحاب القدرة على الملق والكذب .. اللاهثون تحت أقدام السادة تلبية لإشارة أو التقاطاً لغنيمة .
هذا الصنف الخسيس من الناس هو الذى يؤثر بالمناصب ويظفر بالترقيات، وتضفى عليه النعوت، ويمكن له فى الأرض ..
أما أهل الرأى والخبرة والعزم والشرف فإن فضائلهم تحسب عليهم لا لهم، وتنسج لهم الأكفان بدل أن ترفع لهم الرايات ..
والويل لأمة يقودها التافهون، ويخزى فيها القادرون ..
وقد كنت أقرأ فى الصحف ـ دون دهشة ـ كيف أن المسئول عن " الثقافة والفكر فى الاتحاد الاشتراكى " رجل أمى يصيح كلما سأله المحقق : اعذرنى فإنى جاهل ..
إن هذه طبيعة الأوضاع التى تعيش على الظلام وتكره النور .
ما أكثر العلماء فى بلادنا لو أريد توسيد الأمر أهله، ولكن العلماء ليسوا موضع ثقة لصغار المتصدرين لأن العالم يستنكر المتناقضات ويكره الدنية، ويقول بغضب :
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
أما وقد أزال الله الغمة، وعلت كلمة الأمة فلنعد بالأمور إلى أوضاعها السليمة، ولنوفر الحريات التى طال إليها الشوق واشتد الحنين .
لقد كان الاستبداد قديماً أقل ضرراً من الاستبداد الذى نظمته الدولة الحديثة فى هذه الأعصار، فإن الدولة فى العصر الحديث تدخلت فى أدق شئون الفرد وبسطت نفوذها على كل شىء .
ومن هنا كان الدمار الأدبى والمعنوى الذى يصحب الاستبداد بعيد الآماد خبيث العواقب .
ومن أحسن ما قيل فى تشييع ظالم مستبد :
لتبك على " الفضل بن مروان " نفسه
فليس له باك من الناس يعرف
لقد صحب الدنيا منوعاً لخيرها
وفارقها وهو الظلوم المعنف
إلى النار فليذهب ومن كان مثله
على أى شىء فاتنا منه نأسف ؟
اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان .
يا للرجال بلا دين
إننى أسأل نفسى بإلحاح فى هذه الأيام العجاف : هل يشعر العرب بأن محمداً مرسل للعالمين، وأن هذه " العالمية " فى دعوته تفرض عليهم بعد إذ عرفوه أن يعرفوا الناس به، وهم عندما يعرفون الناس به لن يصفوا لهم ملامحه الشخصية وإنما يشرحون لهم رسالته الإلهية !
لكن عرب اليوم لا يقدرون محمداً قدره، ولا يخلفونه بأمانة فى مبادئه وتعاليمه، ولا يحسون قبح الشبهات التى أثارها خصومه ضده، بل هم ـ علماً وعملاً ـ مصدر متاعب للإسلام ولنبيه الكريم، وشاهد زور يجعل الحكم عليه لا له !
قد تقول حسبك حسبك أن الناس بخير، ومحبتهم لرسولهم فوق التهم فلا تطلق هذه الصيحات الساخطة، فما تحب الجماهير أحداً كما يحب أتباع محمد محمداً ..
وأقول لك : سوف أغمض العين عن ألوف من المتعلمين ضلل الاستعمار الثقافى سعيهم وشوه بصائرهم وأذواقهم، مع أن وزنهم ثقيل فى قيادة الأمة العربية، فما قيمة الحب الرخيص الذى تكنه جماهير الدهماء ؟
إنه حب غايته صلوات تفلت من الشفتين مصحوبة بعواطف حارة أو باردة، وقلما تتحول إلى عمل كبير وجهاد خطير، والترجمة عن حب محمد بهذا الأسلوب فى وقت ينهب فيه تراثه أمر مرفوض إن لم يكن ضرباً من النفاق !
أذكر أنى ذهبت يوماً لأحد التجار كى أصلح شيئاً لى، فاحتفى بى وقدم بعض الأشربة، وأفهمنى أنه أتم ما أريد بعد أن وفيته ما أراد . ثم شعرت أن عمله كان ناقصاً ولا أقول مغشوشاً !
فقلت : ليته ما حيا ولا رحب وأدى ما عليه بصدق ! ماذا أستفيد من تحيات لا جد معها ولا إخلاص .
والشأن كذلك مع أقوام قد تموج أحفال المولد النبوى بهم أو قد يصرخون بالصلاة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أعقاب الأذان، أو قد يؤلفون صلوات من عند أنفسهم يحار المرء فى تراكيبها لإغراقها فى الخيال .
وقد يكون حبهم تمسكاً شديداً ببعض النوافل وهروباً تاماً من بعض الفرائض أو حناناً لا ندى معه ولا عطاء كهذا الذى قال له الشاعر :
لا ألفينك بعد الموت تندبنى
وفى حياتى ما قدمت لى زادا
أى حب هذا .. إن العرب لا يعرفون أى شرف كتب لجنسهم ولغتهم وأمسهم وغدهم عندما ابتعث الله محمداً منهم، وإن التقدير الحق لهذا الشرف لا يكون بالسلوك المستغرب الذى يواقعونه الآن ومنذ بدأوا يعبثون برسالة الله بينهم .
لما أراد رب العزة أن يعلن بركته النامية ورحمته الهامية اختار فى كتابه العزيز عبارتين مبينتين :
الأولى : تتحدث عن البركة فى مظهر القدرة التى تجمع أزمة الكون فى يده، فيستحيل أن يغلب يوماً على أمره أو يشركه أحد فى ملكه، وفى هذا المعنى يقول جل شأنه " تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير " .
والثانية : تتحدث عن البركة فى صورة الرجل الذى حمل هداه الأخير إلى عباده وتفجرت ينابيع الحكمة من بيانه وسيرته، فكان القرآن الذى يتلوه مشرق شعاع لا ينطفي، يهتدى على سناه أهل القارات الخمس ما بقى الليل والنهار . وفى هذا المعنى يقول جل شأنه " تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً " [ الفرقان ] .
إن الإنسان المبعوث رحمة للعالمين أشعل الأمة التى ظهر فى ربوعها فانطلقت لأول مرة من بدء الخليقة تحمل للناس الخير والعدل واستطاعت أن تؤدب جبابرة الأرض الذين عاثوا فى أرجائها فساداً وظنوا أن كبرياءهم لن يخدشها أحد !
حتى جاء الرجال الذين رباهم محمد، فقوموا صعر المعتدين، وأعزوا جانب المستضعفين، وكم تحتاج الدنيا فى يوم الناس هذا إلى هذا الطراز من الرجال ليحموا الحق الذليل وينقذوا التوحيد المهان ويقروا الأخوة الإنسانية المنكورة وينزلوا البيض إلى منزلة السود أو يرفعوا السود إلى منزلة البيض ..
لكن السقطة الرهيبة للعرب المعاصرين أنهم ذاهلون عن المكانة التى منحهم محمد إياها هابطون عن المستوى الذى شدهم إليه، وفيهم من يفتح فمه ليقول : إن العرب يمكن أن يكونوا شيئاً من غير محمد !!
قبح الله وجهك من قائل أفاك ..
ومن أيام جاءنى نفر من العامة متنازعون على إدارة مسجد : بعضهم يريد أن يقول فى الأذان : " أشهد أن " سيدنا " محمداً رسول الله " .
والآخر يريد الاكتفاء بالوارد فلا يذكر لفظ " سيدنا " لأنه مبتدع .
ونظرت إلى أعراض المرض الذى يفتك بالأمة المعتلة، وقلت لهم : إن محترفى الإفك من المبشرين والمستشرقين ملأوا أقطار العالم بالافتراء على محمد وشخصه ودينه، ورسموا له صورة مشوهة فى أذهان الكثيرين وأنتم هنا لا تزالون فى هذا الغباء .
ما أشقى ديناً أنتم أتباعه، إن المسلمين بين ما ورثوا من جهل وما نضح عليهم من ضلال العصر لا يزالون يهرفون بما لا يعرفون ..
.. إن حب محمد يوم يكون لقباً يضفيه عليه الكسالى الواهنون فهو حب لا وزن له ولا أثر ! ويوم يكون أحفالاً رسمية وشعبية بيوم ميلاده فهو حب لا وزن له ولا أثر ! ويوم يكون قراءة للكتاب المنزل عليه فى مواكب الموت ومجالس العزاء فهو حب لا وزن له ولا أثر ! ويوم يكون ادعاء تستر به الشهوات الكامنة والطباع الغلاظ فهو حب لا وزن له ولا أثر ! .. لأن محمداً هو الرسول الذى رسم للبشر طريق التسامى الحقيقى، ورسم للجماعات طريق التلاقى على الحقائق والفضائل فدينه عقل يأبى الخرافة وقلب يعلو على الأهواء .
ـ ماذا كسب المسلمون عندما حولوا الدين من موضوع إلى شكل ؟
ـ وماذا كسب العرب عندما شقوا طريقهم إلى المستقبل وهم يطوون اسم محمد وتراثه عن نشاطه السياسى والعسكرى ؟
ولو نظرت إلى هذه الألوف المؤلفة من الكنائس والمعابد لوجدت داخلها أجهزة منظمة دوارة تعمل من غير ملل لصرف الناس عن الإسلام ونسبة أقبح النعوت إلى نبيه المبرأ الشريف ..
وكأن الله تبارك اسمه شاء أن يعرف هذه الأمم مدى ما كانت فيه من غباوة وأن يذيقها شيئاً من مرارة الجريمة التى ارتكبتها، فهو فى ساحة العرض الشامل لأصناف الخلائق يحشر سكان القارات الخمس على مر القرون يحشرهم فى صعيد واحد، ثم يكشف الغطاء عن عيونهم وإذا هم يتبينون فداحة جهلهم بالله الكبير المتعال، ويتبينون شناعة خصامهم لإمام رسله ..
وهنا يموج بعضهم فى بعض [ كتبنا هذا الكلام فى كتابنا " من هنا نعلم " من ثلث قرن ]، ويضطربون فى حيرة مفزعة لا يرجى منها خلاص، وتتحرك جموعهم إلى كل نبى سمعوا باسمه فى العالم الذى انتهى يناشدونه أن يسأل الله لهم الرحمة، ولكن النبيين كلهم يرفضون التصدى لهذا المطلب، ويعود أهل القارات الخمس متراكضين إلى الرجل الذى طالما قيل لهم إنه كذاب، إنهم يحسون الآن عن يقين أنهم أخطأوا فى حقه، وأنهم يوم صدوا عنه كانوا يخسرون أنفسهم وأهليهم .. ! [ يشير شيخنا إلى حديث الشفاعة الطويل الذى رواه الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى، وابن حبان فى صحيحه راجع الترغيب ( 4 / 425 ) ] .
الشفاعة العظمى فى رأيى موقف يحاكم فيه التاريخ البشرى كله ليعترف أن انصرافه عن الإسلام كان مشاقة لله وعداء لأحب أوليائه وأصدق دعاته ..
وما أعجب أن تجد الإنسانية نفسها فى حرج يوشك أن يقضى عليها ثم تعلم فجأة أن التنفيس عن كرباتها ربما تم باللجوء إلى الرجل الذى عاشت دهوراً، وهى تروى عنه الأكاذيب وتنسب إليه الأساطير .
والتجاء أهل الأرض إلى محمد فى هذه الساعة العصيبة ولجوءه إلى الله يطلب مغفرته لعبيده الأغرار، ذلك فى ظنى هو المقام المحمود، المقام الذى نسأله لمحمد عقب كل أذان يتردد صداه فى مهاب الريح ليستجيب له قوم وينصرف عنه آخرون " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت " محمداً " الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذى وعدته " .
قلت : إن محمداً فى عالم العقائد والحقائق شمس وضاحة نفاحة، لكن العميان كثيرون، وقد مكث هذا الرسول النبيل يصدع بأمر الله وينقذ الناس من أهوائهم ومظالمهم، ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى تاركاً فينا تراثه الجليل من كتاب وسنة، فليتعلم الدعاة من حياة سيد الدعاة أن أجر الحق المبذول لا يعجل فى الدنيا، وأن للمقام المحمود موعداً فى غير هذه الدار يتعلق به وحده الدعاة الأبرار .
مشهورون ومجهولون
أعجبنى فى اليمين التى حلف عليها أنس بن النضر أن الرجل كان يشهد الله وحده، وينشد أولاً وآخراً رضاه .
لقد أحزنه أن الله لم يره فى ميدان القتال ببدر، فأقسم أن يرى الله نفسه فى أول لقاء بالكافرين، وأن يضرب أعلى مثل فى التفانى والاستبسال .
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
لم يدر فى خلد أنس تطلع إلى جاه أو تشوق إلى شهرة .
كان الرجل أزكى نية وأشرف نفساً من أن يلم بهذه الدنايا .
والعمل لا يوصف بالصلاح ولا يرشح للقبول إلا إذا خلص لله وحده، وقصد به وجهه .
روى أحمد بن حنبل عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أخوف ما أخاف على أمتى الشرك الأصغر، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء !
يقول الله عز وجل ـ للمرائين ـ إذا جزى الله الناس بأعمالهم : " اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فى الدنيا، فانظروا : هل تجدون عندهم جزاء ؟ " .
والواقع أنه لا جزاء عندهم لا فى الآخرة ولا فى الدنيا، فماذا يرجو عبد من عبد إلا أن يزداد ذلاً ؟ وماذا يطلب فقير من فقير إلا أن يزداد عيلة !
إن الإخلاص لله سياج العز وضمان الخير فى الحياتين .
وعندما تصدق النية فلا يخشى على العبد من مجاهرة بصلاة أو جهاد أو صدقة، إذ الأساس استهداف وجه الله، وليس على البال غيره .
ومن الحماقة أن يطلب إنسان ثناء الخلق وهو يعلم أن الله قد ستر عليه ذنوباً لو كشفوها لسودوا وجهه !!
الله أولى بالاتجاه والمودة وأحق بالحفاوة والالتفات ..
ومن عظمة الإيمان اكتفاء المرء بنظر الله إليه، وإيثاره أن يعمل فى صمت، أو يموت جندياً مجهولاً، وهذا الاكتفاء دلالة استغراق المرء فى الشهود الإلهى، ورسوخ قدمه فى مقام الإحسان، وتلك هى الولاية كما شرحها معاذ بن جبل رضوان الله عليه .
روى ابن ماجه أن عمر بن الخطاب خرج إلى المسجد فوجد معاذاً عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم
يبكى ! فقال : ما يبكيك ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله : " اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة " .
أجل إن الله يحب أولئك العاملين فى صمت، الزاهدين فى الشهرة والسلطة، المشغولين باللباب عن القشور، المتعلقة قلوبهم بالله، لا تحجبهم عنه فتنة ولا تغريهم متعة .
وما أفقر أمتنا إلى هذا الصنف المبارك، بهم ترزق وبهم تنصر .
إلا أن بعض العبادات الأصلية ما تتم إلا فى جو العلانية والظهور كالتعلم والدعوة والقضاء والجهاد، بل إن قيام الأركان الأساسية يتطلب ذلك، وهنا تؤكد خطورة النية المصاحبة فى تقويم أى عمل صحة وقبولاً .
وقد كان أبو بكر يقوم الليل فيقرأ سراً، وكان عمر يقوم فيقرأ جهراً، فلما سئل الصديق قال : أسمعت من أناجى ! ولما سئل الفاروق قال : أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان !!
إن إخلاص النية هنا وهناك يجعل السر والعلن سواء .
وذلك ما ينبغى أن يعيه الدعاة والقضاة والساسة والقادة، وكل من يحملون مؤنة الآخرين، أو يكونون فى موضع الأسوة .
والإخلاص لا يمنع المسلم من الاهتمام بنفسه وسمعته وكرامته .
إن الله كلفنا أن نجمل أبداننا وملابسنا، وكره لنا رثاثة الهيئة وكآبة المنظر فى الأهل والمال، فليس من الرياء أن نصون أحوالنا ونحصن مكاناتنا من الظنون والمكدرات !
من حق الكريم ألا يتهم بالبخل كما أن من حق النظيف ألا يرمى بالأدران .
لكن الدفاع عن الكيان المادى والمعنوى شىء وطلب وجوه الناس بالعمل الصالح شىء آخر .
وقد خلد القرآن الكريم ذكر فريقين من الهداة الأتقياء :
ـ أحدهما : سجل أسماءه وجهاده وأثنى على رجاله أطيب الثناء .
ـ والآخر : طوى أسماءه ونشر سيرته واكتفى بشرح عمله وتزكية أثره .
من الأولين أنبياء الله الكرام الذين غرسوا هدايات السماء فى الأرض، وذادوا عنها أوبئة الكفر والعدوان .
والقرآن عندما يثبت تاريخاً لا يعنى إلا بإبراز المناقب التى تؤخذ منها الأسوة والفضائل التى سبقت بذويها وأعلت أقدارهم !
تدبر قوله تعالى : " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدى والأبصار . إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار . وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار " [ ص : 47 ] . إن هذه الآيات تنبه إلى الاستطالة المادية والمعنوية لهؤلاء الدعاة الكبار، فليست الأيدى والأبصار هذه الأعضاء والحواس التى يشترك فيها العباقرة والدهماء، ولكنها القدرة والمعرفة !
وهل يتقدم من يتقدم، ويتأخر من يتأخر إلا بهذا التفاوت البعيد فى الهمم والثقافات ؟؟
وندع الحديث عن هذا الفريق الذى رفع الله ذكره إلى الفريق الآخر الذى أسدل على أسماء رجاله ستار كثيف فما يعرفهم إلا ربهم .
من يدرى ؟ لعل هذا تكريم وتثبيت للذين يعملون حتى الممات بعيداً عن الأضواء، إنهم أسمعوا من يناجون ! ولن يضيع من عملهم مثقال ذرة وإن جهل الناس من هم
لهم أسوة حسنة فيمن حكى القرآن أنباءهم وترك ـ غير نسيان ـ أسماءهم .
من هؤلاء مؤمن آل فرعون الذى أحس نية الغدر بموسى والتآمر على قتله، فاصطنع أسلوب المحايد فى عرض نصحه وتفكيره قائلاً :
ما خطورة أن يؤمن أحد بالله، أو يزعم أنه يحمل رسالة من لدنه :
ـ إن كان كاذباً فستفضحه الأيام، ولن يضر إلا نفسه .
ـ وإن كان صادقاً فإن العدوان عليه استهداف لعقاب الله الكبير، وليس من العقل التعرض لعقاب الله .
واستتلى يقول : قد نكون اليوم أقوياء غالبين، ولكننا بشر لا نفلت من أصابع القدرة العليا عندما تقبض علينا فلا ينبغى أن نجور على عباد الله ..
قال تعالى مخلداً دفاع هذا المحامى المؤمن :
" وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟! وإن يك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذى يعدكم، إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا .. قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " [ غافر : 29 ] .
وأحب أن أقف قليلاً عند رد فرعون : هل كان الرجل يعتقد فعلاً أنه راشد، أم أنه كان يحاد الله ورسوله وهو يدرى أنه مبطل عنيد ؟
الواقع أن كثيراً من الضالين يمضون فى طريق الغواية وهم يستحسنونها ويستريحون إليها ويعتقدون أن لهم وجهة نظر جديرة بالتسليم .
وفى هؤلاء يقول الله تعالى : " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون " [ النمل : 4 ] ويقول : " أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم " [ محمد : 14 ] .
ويقول المفسرون فى قوله تعالى : " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " نزلت الآية فى أبى جهل عندما قاد المشركين فى معركة بدر، فقد قال لما التقى الجمعان : اللهم أينا كان أفجر قاطعاً للرحم ـ يعنى نفسه ومحمداً ـ فاحفه اليوم أى أهلكه ..
فكأن هذا الكفور الكنود كان إلى الرمق الأخير يعتقد أنه محق فيما ارتكب !!
إن الحجاب المسدل على بصيرته لم يسمح لشعاع من الخير أن يتسلل إلى نفسه، وهو المسئول عن ذلك الطمس، فلولا إدمان المعصية وتعود الجريمة، ما أصابه هذا العمى !
وقد يكون كلا الرجلين " فرعون " و " أبو جهل " كاذباً فى حديثه عن نفسه وحواره مع قومه، فمثلهما من الدهاء والقدرة بحيث يدرى أنه مسترسل مع هواه، وأنه يكابر الحقائق، ويشاق الله ورسله .
وقد كشف القرآن الكريم فى موضع آخر أن فرعون وقومه لما جاءتهم آيات الله الباهرة " جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً " [ النمل : 14 ] كما قال لرسوله محمد شارحاً موقف أبى جهل وأشباهه " إنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " [ الأنعام : 33 ] .
وقد كان مؤمن آل فرعون يحس أنه أمام جماعة من الأفاكين المغرورين، فأخذ رويداً رويداً يتخلى عن موقف الحياد الذى بدأ به نصائحه وارتفعت درجة الحماس فى خطابه لفرعون ومن معه خصوصاً عندما قال فرعون ساخراً لوزيره هامان : " ابن لى صرحاً لعلى أبلغ الأسباب، أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى، وإنى لأظنه كاذباً .. " [ غافر ] .
عندئذ احتدت لهجة الرجل المؤمن، واضطرم الإخلاص فى قلبه ولسانه فصاح " يا قوم مالى أدعوكم إلى النجاة وتدعوننى إلى النار .. " .
وقال : لا جرم أن ما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله " [ غافر ] .
ولكن هذه المناشدة الخالصة الحادبة لم تلق آذاناً واعية فمضى فرعون إلى مصرعه، وأورد قومه الحتوف، وبقى النصح الجميل الصادق الذى بذله الرجل المؤمن خالداً على الدهر يكشف عن أسرار القدرة العليا فيما أنزلت بالظالمين .
من هذا الرجل الذى يردد كلام الأنبياء وليس منهم ؟ لا نعرفه، ولا نعرف عن مولده ومماته شيئاً .
ليكن رمزاً للعمل بعيداً عن الأضواء، استعلاء على الشهرة فى الأرض، وإيثار العقبى فى السماء !!
وهذا رجل آخر من الطراز عينه، رجل وجد العراك محتدماً بين رسل الله وحماة الانحراف، هؤلاء يريدون أن يبلغوا عن الله ويغيروا الشر السائد، وأولئك يريدون تكميم أفواههم وإخراس ألسنتهم ..
ونما الخصام بين الفريقين، وبلغ الأمر بأعداء الوحى أن تشاءموا من وجود المرسلين بينهم، ومن دعوتهم فيهم، فتهددوهم بالعذاب الأليم .
وجاء الرجل المؤمن من بعيد يهيب بقومه أن يعقلوا !
وقال : " يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون " [ يس : 26 ] .
لقد أمن قومه على أموالهم فلم يرزأهم أحد فيها، وهذه الدنيا التى يحرصون عليها ستبقى لهم مزدانة بالإيمان الحق، فما أجمل هذا !
ثم تساءل : ما يمنعنا من الإيمان ؟ وما يغرينا بالشرك ؟
" وما لى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون ؟ أأتخذ من دونه آلهة، إن يردن الرحمن بضر لا تغنى عنى شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ؟ إنى إذاً لفى ضلال مبين . إنى آمنت بربكم فاسمعون " .
إنه يريد إسماعهم ليرعووا ويقتدوا ولا يستوحشوا من الطريق الذى يدعوهم إليه .
وبقى الرجل إلى آخر رمق ينصح أهل بلده ليرشدوا، بيد أنه مات تاركاً إياهم على غوايتهم .
فلما وجد طيب عيشه عند ربه وثمرة إيمانه تحف به وتقر عينه تذكر الرجل المخلص قومه فتمنى لهم الهدى " يا ليت قومى يعلمون بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين " .
ولكن قومه أصروا على العمل فمستهم نفحة من عذاب الله أخمدت أنفاسهم وجعلتهم أثراً بعد عين .
من هذا الرجل الطيب القلب السمح النفس ؟
لا نعرفه، حسبه أن ربه يعرفه، إنه لم يعمل إلا له !
والفتية أهل الكهف الذين أحبوا ربهم حباً جماً، وغالوا بتوحيده مغالاة ظاهرة، من هم ؟ لا ندرى، لقد رفض القرآن أن يجلو النقاب عن أشخاصهم وعددهم " ربهم أعلم بهم " " ربى أعلم بعدتهم " .
لكنه كشف عن جلال يقينهم وسمو معرفتهم بالله وإجماعهم على إفراده بالعبادة، وازدرائهم لكل انحراف إلى الشرك " ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذن شططاً " .
كما كشف عن تبرمهم الشديد بالمجتمع الوثنى وعزوفهم عن البقاء فيه، وخشيتهم من العودة إليه إذا ضبطوا متلبسين بإيمان !
وانظر مدى كراهيتهم للكفر، والوقوع تحت سطوة أهله، وقول بعضهم لبعض " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً ! " [ الكهف : 20 ]
إن العيش بمبدأ كريم ولمبدأ كريم شىء عظيم حقاً .
وإنما يتفجر الفداء والإخلاص من عمق هذه الحياة الرفيعة .
والأمة العربية فتكت بها أمراض الرياء، وعلل التعاظم الأجوف والرغبة فى الظهور بالحق أو بالزور، ولا يمكن أن تنهض أمة مع هذه الأدواء الخسيسة !
إننا بحاجة إلى أعداد كبيرة من الجنود المجهولين، يعملون فى ألف ميدان، ويسدون ألف ألف ثغرة .
فهل يوجد من يكتفون بنظر الله إليهم، ويستغنون عن أنظار الناس ؟
التنادى بالجهاد المقدس
فى صدر تاريخنا، وعلى امتداده مع الزمن، كان العالم الإسلامى يعرف بحبه للجهاد وارتضائه لأشق التضحيات كى يحق الحق ويبطل الباطل .
كان هذا العالم الرحب عارم القوى الأدبية والمادية حتى يئس المعتدون من طول الاشتباك معه، فقد كبح جماحهم، وقلم أظفارهم ورد فلولهم مذعورة من حيث جاءت، أو ألحق بهم من المغارم والآلام ما يظل بينهم عبرة متوارثة وتأديباً مرهوباً ..
ويرجع ذلك إلى أمور عدة :
أولها : أن الحقائق الدينية عندنا لا تنفك أبداً عن أسباب صيانتها ودواعى حمايتها، فهى مغلفة بغطاء صلب يكسر أنياب الوحوش إذا حاولت قضمها .
وذلك هو السر فى بقاء عقائدنا سليمة برغم المحاولات المتكررة لاستباحتها، تلك المحاولات التى نجحت فى اجتياح عقائد أخرى أو الانحراف بها عن أصلها .
ثم إن الإسلام جعل حراسة الحق أرفع العبادات أجراً، أجل فلولا يقظة أولئك الحراس وتفانيهم ما بقى للإيمان منار، ولا سرى له شعاع " قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد فى سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ! فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثة، كل ذلك يقول : لا تستطيعونه ! ثم قال : مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام .. حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله " [ البخارى ] .
وإذا كان فقدان الحياة أمراً مقلقاً لبعض الناس فإن ترك الدنيا بالنسبة لبعض المجاهدين بداية تكريم إلهى مرموق الجلال شهى المنال حتى أن النبى صلى الله عليه وسلم حلف يرجو هذا المصير .
" والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل " [ البخارى ] .
فأى إغراء بالاستماتة فى إعلاء كلمة الله ونصرة الدين أعظم من هذا الإغراء ؟
لقد كانت صيحة الجهاد المقدس قديماً تجتذب الشباب والشيب وتستهوى الجماهير من كل لون، فإذا سيل لا آخر له من أولى الفداء والنجدة يصب فى الميدان المشتعل . فما تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن تكوى أعداء الله وتلقنهم درساً لا ينسى .
هل أصبحت هذه الخصائص الإسلامية ذكريات مضت أم أنها محفورة فى عقلنا الباطن تحتاج إلى من يزيل عنها الغبار وحسب ؟
إن الاستعمار الذى زحف على العالم الإسلامى خلال كبوته الأخيرة بذل جهوداً هائلة لشغل المسلمين عن هذه المعانى أو لقتل هذه الخصائص النفسية فى حياتهم العامة، وذلك ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أية مقاومة !
وقد توسل إلى ذلك بتكثير الشهوات أمام العيون الجائعة، وتوهين العقائد والفضائل التى تعصم من الدنايا، وإبعاد الإسلام شكلاً وموضوعاً عن كل مجال جادة، وتضخيم كل نزعة محلية أو شخصية تمزق الأخوة الجامعة وتوهى الرباط العام بين أشتات المسلمين .
وقد أصاب خلال القرن الأخير نجاحاً ملحوظاً فى سبيل غايته تلك ..
ومن ثم لم تنجح محاولات تجميع المسلمين لصد العدو الذى جثم على أرضهم واستباح مقدساتهم ..
وما قيمة هذا التجميع إذا كان الذين ندعوهم قد تحللوا من الإيمان وفرائضه، والقرآن وأحكامه .
إن تجميع الأصفار لا ينتج عدداً له قيمة !!
وإن الجهد الأول المعقول يكمن فى رد المسلمين إلى دينهم، وتصحيح معالمه ومطالبه فى شئونهم، ما ظهر منها وما بطن ..
عندئذ يدعون فيستجيبون ويكافحون فينتصرون، ويحتشدون فى معارك الشرف فيبتسم لهم النصر القريب وتتفتح لهم جنات الرضوان .
إن الرجل ذا العقيدة عندما يقاتل لا يقف دونه شىء .
أعجبتنى هذه القصة الرمزية الوجيزة، أسوقها هنا لما تنضح به من دلالة رائعة :
" حكوا عن قوم فيما مضى كانوا يعبدون شجرة من دون الله، فخرج رجل مؤمن من صومعته وأخذ معه فأساً ليقطع بها هذه الشجرة، غيرة لله وحمية لدينه ! فتمثل له إبليس فى صورة رجل وقال له : إلى أين أنت ذاهب ؟ قال : أقطع تلك الشجرة التى تعبدون من دون الله، فقال له : اتركها وأنا أعطيك درهمين كل يوم، تجدهما تحت وسادتك إذا استيقظت كل صباح ! ..
" فطمع الرجل فى المال، وانثنى عن غرضه، فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئاً، وظل كذلك ثلاثة ايام، فخرج مغضباً ومعه الفأس ليقطع الشجرة ! قال : ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك ..
" لقد خرجت فى المرة الأولى غاضباً لله فما كان أحد يقدر على منعك ! أما هذه المرة فقد أتيت غاضباً للدنيا التى فاتتك، فما لك مهابة، ولا تستطيع بلوغ إربك فارجع عاجزاً مخذولاً .. " .
إن الغزو الثقافى للعالم الإسلامى استمات فى محو الإيمان الخالص وبواعثه المجردة، استمات فى تعليق الأجيال الجديدة بعرض الدنيا ولذة الحياة، استمات فى إرخاص المثل الرفيع وترجيح المنافع العاجلة ..
ويوم تكثر النماذج المعلولة من عبيد الحياة ومدمنى الشهوات فإن العدوان يشق طريقه كالسكين فى الزبد، لا يلقى عائقاً ولا عنتاً ..
وهذا هو السبب فى جؤارنا الدائم بضرورة بناء المجتمع على الدين وفضائله، فإن ذلك ليس استجابة للحق فقط، بل هو السياج الذى يحمينا فى الدنيا كما ينقذنا فى الآخرة ..
إن ترك صلاة ما قد يكون إضاعة فريضة مهمة، واتباع نزوة خاصة قد تكون ارتكاب جريمة مخلة، لكن هذا أو ذاك يمثلان فى الأمة المنحرفة انهيار المقاومة المؤمنة والتمهيد لمرور العدوان الباغى دون رغبة فى جهاد أو أمل فى استشهاد، ولعل ذلك سر قوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون
غياً " [ مريم 59 ] .
إن كلمة الجهاد المقدس إذا قيلت ـ قديماً ـ كان لها صدى نفسى واجتماعى بعيد المدى، لأن التربية الدينية رفضت التثاقل إلى الأرض والتخاذل عن الواجب، وعدت ذلك طريق العار والنار وخزى الدنيا والآخرة .
وهذه التربية المغالية بدين الله، المؤثرة لرضاه أبداً هى التى تفتقر إليها أمتنا الإسلامية الكبرى فى شرق العالم وغربه .
وكل مؤتمر إسلامى لا يسبقه هذا التمهيد الحتم فلن يكون إلا طبلاً أجوف !
والتربية الدينية التى ننشدها ليست ازوراراً عن مباهج الحياة التى تهفو إليها نفوس البشر، ولكنها تربية تستهدف إدارة الحياة على محور من الشرف والاستقامة، وجعل الإنسان مستعداً فى كل وقت لتطليق متعه إذا اعترضت طريق الواجب .
كنت أقرأ مقالاً مترجماً فى أدب النفس فاستغربت للتلاقى الجميل بين معانيه وبين مواريثنا الإسلامية المعروفة التى يجهلها للأسف كثير من الناس .
تأمل معى هذه العبارة :
" يقول جوته الشاعر الألمانى : من كان غنياً فى دخيلة نفسه فقلما يفتقر إلى شىء من خارجها ! "
أليس ذلك ترجمة أمينة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس " ! [ البخارى ]
عن أبى ذر رضى الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ترى كثرة المال هو الغنى ؟ قلت : نعم يا رسول الله ! قال : فترى قلة المال هو الفقر ؟ فقلت : نعم يا رسول الله . قال : إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب " ..
واسمع هذه العبارة من المقال المذكور :
" النفس هى موطن العلل المضنية، وهى الجديرة بالعناية والتعهد، فإذا طلبت منها أن تسوس بدنك سياسة صالحة فاحرص على أن تعطيها من القوت ما تقوى به وتصح ..
" هذا القوت شىء آخر غير الأخبار المثيرة والملاهى المغرية والأحاديث التافهة والملذات البراقة التافهة، ثم انظر إليها كيف تقوى بعد وتشتد، إن التافه الخسيس مفسدة للنفس ! واعلم أن كل فكرة تفسح لها مكاناً فى عقلك، وكل عاطفة تتسلل إلى فؤادك تترك فيك اثرها، وتسلك بك أحد طريقين : إما أن تعجزك عن مزاولة الحياة وإما أن تزيدك اقتداراً وأملاً ".