الحمد لله
أحكم شرعه
فإليه يرجع أهل الحجج
يمدهم بالحجة،
ويسيرون به على المحجة،
يردون به على مزخرفي الغي بالبهرجة،
ومزيفي الحق بالشبه السمجة،
بعد أن اشتد باطلهم ونضج،
جنى حصاده عميلهم ليلا وأدلج،
ففتحوا لهم أسواقا في كل فج،
ونادى عليها بائع الأعراض والقيم وروَّج.
نسمعهم كلما سنحت الفرصة
يقيمون محافل لإثارة موضوع المرأة
الذي لا يزال يستهوي اطيافا من الناس
ممن يطالبون باسترجاع حقوق قد هضمت،
وإطلاق حريات قد قيدت.
فتارة نسمع بطرح لإلغاء ولاية الرجل على المرأة،
وتارة تترافع أصوات لإعادة النظر في الفرائض والمواريث
وما يتعلق بحق المرأة منها،
وتارة تعرض مطالب لإبطال حق تعدد الزوجات،
وتارة...،
وتارة...
هتافات في صخب وضجيج،
ومطالب تجديد معه تهويل وعجيج،
كل ذلك زعموا وهم يحومون حول حمى الشريعة المحمدية،
حاملين معاول الهدم لأركانها المحمية،
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾
[المؤمنون:71].
إنَّهم جاءوا بدعاوى أدهشت بعضهم بما تحمله من جرأة،
وشوشت على من ليس لهم كبير حظ من الثبات
عند هبوب رياح الإرجاف والفتنة،
وإن كانت بحمد الله أشبه ما تكون برعد أزعج الآذان،
وروع الضعاف والولدان،
ولم يُرَ له بعدُ أثرٌ في أي مكان،
فما زال الناس في بلادنا يقضى فيهم ويحكم عليهم
بقانون الأسرة
والذي قد خضع بحمد الله في جملة كبيرة من نصوصه
لقانون الشريعة الإسلامية،
ومع ذلك يحسن في هذا المقام المختصر
تحرير رد معتصر
على بعض هذه الأباطيل؛
لأن أصحابها فيما زعموا دعاة تجديد وإصلاح،
وقد أبى أهل الإصلاح
إلا أن يتصدوا لكل دعوى لقيط
زعم رفع نسبه إليهم وليس منهم في شيء
حفظا للشريعة من كل شيطان مارد،
وفكر منحرف شارد.
وهذه سردًا بعض مطالبِ أو قُلْ «معاطب» القوم،
مع بيان ما فيها من فكر عقيم وفهم سقيم.
أوَّلًا ـ رفع ولاية الرجال على النساء في التزويج:
وأفكار «المجددين» في هذا الباب
تدور حول إلغاء ولاية الذكور على الإناث في التزويج،
بمعنى أن يكون للمرأة حق تزويج نفسها
من غير أن يشترط في ذلك رضا وليها،
وهذا رأي يحكم به على صاحبه بالخطأ في التقدير،
والخلل في التفكير،
والخطل في الرأي والتدبير،
ناهيك عن محايدته لنصوص الشريعة،
ومعاندته لأقوال العلماء قديما وحديثا.
وأوضح الأدلة على المقصوده
قوله صلى الله عليه وسلم
فيما رواه أبو داود والترمذي:
«لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَليٍّ»
بمعنى لا نكاح صحيح إلا بولي،
ويشهد لهذا ما رواه أحمد وغيره
من حديث عائشة عنه
صلى الله عليه وسلم:
«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ،
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ،
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ».
وهذا الذي عليه عامة أهل العلم وجمهورهم
من مالك وأحمد والشافعي وغيرهم،
وخالف أبو حنيفة
فلم يشترط رضا الولي في صحة نكاح المرأة بالكفء.
فإن قيل:
أليس أبو حنيفة عالما؟؟؟؟
فلمَ تمنعون من الأخذ بقوله في هذه المسألة؟
فالجواب من وجهين:
الأول:
ما مضى من السنة الصحيحة الصريحة
وهي الحَكَم الفصل،
لا أقوال الرجال وإن بلغوا من العلم والورع قمم الجبال.
الثاني:
أن الأخذ بما يخالف الدليل الصحيح الصريح
إنما يلجأ إليه بعضهم عند الحاجة
إلى المدد بتكثير الأقوال بلا حجج،
وهذا ما يجعل المرء ينتقل من مذهب إلى مذهب
بحثا عن قول يروق الأهواء ويرضي الغوغاء
مثلما هو الحال في مسألتنا هذه،
إذ نجد دعاة التجديد لوضع المرأة
راحوا يشدون أزرهم
ويجبرون ضعفهم
بفتوى أو بلوى تدفع عنهم كل نكير،
وتضفي سترا على ما جاءوا به من الباطل والتزوير،
وهذا حتى يختموا زورهم ببصمة شرعية
وهي مذهب السادة الحنفية!!
هذا،
وإن العلماء لم يتنازعوا في اشتراط الولي في النكاح فحسب،
بل في مسائل أخرى متعلقة به،
فذهب أبو ثور وجماعة
إلى أنه لا يشترط الإشهاد في النكاح،
ولم يشترط الشافعي في المهر أن يكون مالا أو عوضا،
ولكل وجهة ودليل،
غير أن هذه الأقوال لو جمعت
لكان حاصلها حلّ الزنا موقعا عليه بأسماء الأئمة الأعلام!
وهذه شنشنة قد عرفها العلماء قديما فحذروا منها،
وهي تتبع ما جاء من غرائب وزلات،
ونوادر وهفوات
في المذاهب والنقولات
لتكون بعد ذلك دليلا على فك ربقة التشريع
والانسلاخ من أحكامه ابتغاء لليسر والتخفيف،
فنقل ابن عبد البر وابن الصلاح وغيرهما
الإجماع على أن تتبع رخص العلماء فسق لا يحل
حتى قيل: «زلة العالِم زلة العالَم»!
يزيد الأمر وضوحا أن وقوع الخلاف في مسألة ما
ليس دليلا على حلها كما يفهم الكثير،
بل هو على العكس من ذلك
دليلٌ حالَ اشتباهِ الأدلة
وعسرِ التخلّص من الخلاف
على الأخذ بالحيطة والإمساك عن الريبة،
ومن عزّ عليه دينه تورع!
فضلا عن هذا كله.
وإنما سيقت هذه الأدلة؛
لأنها الأصل عند طلب الحجة،
وقد يكتفي اللبيب في هذا بشاهد الواقع،
فإن فيه برهانا على صحة ولاية الرجل على المرأة في التزويج،
وضوء الصباح يغني عن المصباح!
إن المرأة تعلم كما يعلم الرجل أنها إلى العاطفة أقرب ومن الحزم أبعد،
يسهل على كل متلبس مستتر
إذا دق أبواب عاطفتها بالأنامل
من غير أن يوقظ شجونا أو يزعج إحساسا
فتح الأبواب،
بل ودخل من أوسعها،
حتى إذا ما نال مراده انسل،
وترك الفؤاد حَسْرانَ معتلا،
ودرءا لهذا النوع من العدوان
شرعت ولاية الرجل على المرأة،
فإن الصائل لا يردّه دمع وتوسل وإنما يردعه زئير وتغوّل!
وشاهد آخر على حاجة المرأة إلى الرجل في تزويجها
وهو لجوؤها إليه إذا استعصى عليها أمرها مع زوجها،
فكم من امرأة بغى عليها زوجها
فشدت أزرها وقوت عضدها بوليها،
وكم من امرأة تزوجت بغير إذن من ولي
فبقيت ذليلة تتجرع غصص النكد،
تنكت الأرض وتقرع سن الندم،
ولسان حالها قائل:
ليت العـزوبة تعـودُ يومـا فأخبرها بمـا فعل الزواج!!
فليست إذن ولاية تعسف ونكاية،
وإنما هي ولاية رعاية وحماية.
ومن هذا الباب قد يفهم أيضا
لماذا جعلت عصمة الطلاق بيد الزوج لا المرأة،
وهذا مطلب من مطالب المجددين،
أي:
ثانيًا ـ حق المرأة في التطليق:
حينما يقال بأنه يسوغ للمرأة تطليق زوجها
فهذا يعني أن يكون الرجل على حذر ووجل
يقبعان في نفسه
ولا يفارقانه إلى أن يفارق زوجته
فليس يدري متى يتقلب قلبها،
وهو في الوقت نفسه مطالب بحمايتها ورعايتها
والقيام بالنفقة عليها،
وهذا بعينه الغُرم المقرون بالغُبن.
وقد تنزهت الشريعة عن مثل هذا،
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّمَا الطَّلاقُ لمنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ»
أخرجه ابن ماجه،
أي أن الطلاق حق الزوج الذي له أن يأخذ بساق المرأة،
وأما ما يقع من جهة المرأة من طلب فرقة وخلع
إذا ما وجد مسوغ لذلك فإنه لا يكون بعبارتها،
وإنما بقضاء القاضي
إلا أن يفوضها الزوج الطلاق وهذا غير مسألتنا.
وكون الطلاق بيد الزوج هو العدل؛
لأن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح،
فيجب أن يكون حل هذه العقدة بيده أيضا،
ولأن الزوج قائم على المرأة
كما قال تعالى:
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء
بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾
[النساء:34]،
وإذا كان هو القائم
صار الأمر بيده،
هذا مقتضى النظر الصحيح؛
ولأن الزوج أكمل عقلا من المرأة وأبعد نظرا،
فلا تجده يقدم على الطلاق غالبًا إلا حيث يرى أنه لا بد منه.
فإذا عارض مَن ديدنه المعارضة
في كون المرأة ميالةً بالطبع إلى العاطفة؛
فلينظر إلى الأسقام التي يصاب بها أهل العاطفة،
ولينظر إلى جمهور المترددين إلى عيادات الأمراض النفسية
والراقين والمشعوذين
و...،
أَهُمْ رجال أم نساء!
إن هذه القضايا المذكورة في الحقيقة بعضها مرتبط ببعض،
فالرجل له الولاية على المرأة؛
لأن عليه القيام بما يصلح أحوالها وحفظها
والسعي لتوفير النفقة المناسبة لها،
وحل عقدة النكاح بيده؛
لأنه في العادة لا يُقْبِل على هدم أسرة
أضناه السعي في جمع لبناتها
إلا إذا كان هذا البيت مجرد سكن لا سكينة فيه ولا سكن.
ولهذا أيضا فإن حق الرجل في الميراث مضاعف على حق المرأة فيه،
فحمدا لله أعطى للمرأة نصيبا لنفسها
وأعطى للرجل ضعف نصيبها لنفسه ولأهله وولده،
فماذا يريد النساء بعد،...؟
يطالبن بالمساواة والبروز في الوظائف التي أسندت إلى الرجال،
يردن أن يكن أندادا،
بل «أسيادا» للرجال،
ولن تزال المرأة مهما أعطيت من الحظوظ والحقوق هي المرأة،
لن تزال المرأة تحمل،
ولن تزال المرأة تلد وترضع،
ولن تزال عاطلة عن «المهنة» لعطلة أمومة،
ولن تزال المرأة قبل كل شيء بخلقتها
امرأة تميزها على رجال العالم كلهم.
فهل من الفقه أو الحكمة بعد هذا كله
أن يقضى عليها لا لها بمساواتها للرجل
فتتحمل ما هي عاجزة عن القيام به،
بل العقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه
شرعا وقدرا
يأبيان الجمع بين الرجل والمرأة والمساواة بينهما
﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهاَ﴾
[الروم:30].
دارت حرب في عقود مضت بين الرجال والنساء
لإخراجهن من حيز البهيمية.
ولما وضعت الحرب أوزارها
رضيت النساء من الصلح المشروط بيوم من الدهر يكون لهن عيدا،
ومع أنهن لم يبتعدن كثيرا عن البهيمية التي كن فيها،
فإن صاحبات المحنة فرحن لجزالة هذه المنحة!
وأما المرأة المسلمة
فلا يزال فرحها منذ أن أشرقت شمس النبوة
وجاءها الخطاب القرآني
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾
[النحل:97].
فلا تجديد إذن لحقوق المرأة؛
لأن المطالبين به قد نضج إناؤهم بالباطل،
وولغ فيه أشياعهم
فإذا وردت عليه فأرقه فإنه نجس،
لا يصلح لريٍّ ولا تطهير بدن ولا زيٍّ.
قال الله تعالي:::
والله يعلم وانتم لا تعلمون
صدق الله العظيم