عالم الاجتماع العربي
ابن خلدون
الذي ولد وعاش في بلاد المغرب العربي وتقلد مناصب كثيرة في حياته
ومنها قاضي القضاة في بلاد الأندلس (ت 808 هـ )
فقد أصبحت نظرياته في الاجتماع والسياسة ونشوء وطبائع الأمم
مرجعا مهما في الحياة البشرية وتدرس في كافة جامعات العالم
فقد سبق بني عصره بنباهته
ومن خلال ممارسته السياسة آنذاك
وإن الخلافات السياسية التي كانت سائدة في عصره
كانت زادا معرفيا في وضع تلك النظرية
في علم الاجتماع والساسة والحضارة والعمران
وقد جمعها في كتابه المعروف
(العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب
والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)
ويعتبر ابن خلدون رائد علم الاجتماع
في حين يجهل ويتجاهل بعض الغربيين أنهم هم من أسس علم الاجتماع
وأما البعض الآخر يدرك أهمية ابن خلدون
ويرى في مقدمته المشهورة
أن التصوف الإسلامي علم من العلوم الشرقية الحادثة في الإسلام
وهذا التصوف في نظره له أصول عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم
فطريقة الصوفية هي طريق الحق والهداية
وأصله العكوف على العبادة والانقطاع الى الله تعالى
والأعراض عن زخرف الدنيا وزينتها
والزهد فيما يقبل عليه العامة من الناس من اللذات وطلب المال والجاه ,
ولقد كان الصحابة
كما أورد ابن خلدون
ينفردون عن الخلف في الخلوة للعبادة ,
ويقول:
أن ذلك كان عاما في الصحابة والسلف الصالح
ولم ينظر إليه كحالة متفردة
وإنما كان الجميع يعايشون هذا التصوف والزهد في حياتهم اليومية
دون أن يشوبها أي نوع من الابتعاد عن العبادة وأداء الفرائض
والقيام بالعمل والإخلاص في كل مفردات الحياة اليومية للناس .
ويبين لنا أن ابن خلدون في مقدمته
أن السبب في شيوع اسم الصوفية
راجع إلى انه قد فشى الإقبال على الدنيا في القرن الثاني الهجري ,
وبعد كثير من الناس عن العبادة وجنحوا إلى مخالطة أهل الدنيا ,
وصار علم التصوف في الملـّة علما مدونا
بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط ,
كما كان فيها الإنسان المتعبد يسلك في مقامات عدة
فمنها المقام للمريد يبتغي منها محاسبة النفس
للتخلص من الحزن والهم والكسل الذي يسعى من خلاله
وهي تلك الرياضة في مقام آخر هو العبادة
التي لم تكن في الحالة الأولى ,
فالعبادة ينتهي فيها المريد إلى التوحيد
وهي الغاية المطلوبة للسعادة التي يبحث عنها ,
فالمريد لا بد له من الترقي التي تأتي مجتمعة ومشتملة
على الطاعة والعبادة وجوهرها الإيمان بالله عزوجل.
لذلك أختص المقبلون على الله العكوف على العبادة
باسم الصوفية والمتصوفة
وكأن ابن خلدون يرد على مزاعم بعض المستشرقين والمستغربين
عندما يتقولون على الصوفية ويدعون أن هذا التصوف لا أصل له من الشريعة
واختلف المتصوفة والمتكلمين من الأتباع في هذا الدين
في تفسير هذا السلوك
فمنهم من عزا ذلك إلى جوهر الشريعة
وآخرون ابتكروا فيه جوانب وانتقدوا جزءا منه ,
وبينما فريق آخر تكلم فيما هي المجاهدات والأحوال والرقى
وصولا إلى المراتب والمشاهدات التي يجب أن تباح ,
وحتى في التعبير عنها تعجز اللغة عن الإفصاح عنها,
إلا بإماءات وإشارات لم تكن واضحة إلا لمن قطع شوطا كبيرا في المراتب
التي تم تعدادها فيقول في ذلك
( وسار علم الشريعة على صنفين )
1- صنف أختص به الفقهاء وأهل الفتية
وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات
2- صنف اختص به الصوفية
وهو في القيام بالمجاهدة ومحاسبة النفس عليها
والكلام وفي الأذواق و المواجد وكيفية الترقي من ذوق إلى ذوق
وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك .
ويستطرد العلامة ابن خلدون فيقول:
فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه ,
وعلماء الكلام في الكلام
وعلماء التفسير في التفسير
دوّن رجال من أهل التصوف كتبا في الورع ومحاسبة النفس ,
ويستشهد في ذلك بما فعله القشيري في كتاب الرسالة
والسهروردي في كتاب (عوارف المعارف)
كما جمع الأمام الغزالي بين الأمرين
وذلك في كتاب (إحياء علوم الدين)
كتب الأمام الغزالي عن الورع والإقتداء
ثم بين آداب الصوفية و سننهم
وشرح اصطلاحاتهم وأدق معارفهم
وأصبح علم التصوف الإسلامي علما مدونا
بعد أن كان التصوف عبارة عن عبادة فحسب
والحقيقة أن التصوف مثله في ذلك
مثل علم الفقه والكلام والتفسير والحديث
كان علما يتلقى من صدور الصحابة والسلف ,
وأن لم يكن في القرن الأول والثاني
قد دوّن مثل كثير من العلوم الإسلامية ,
إلا انه كان على الحقيقة موجودا في صدور الصحابة والتابعين وتابع التابعين
لقد كان الشغل الشاغل للصحابة في الصدر الأول للإسلام
هو العمل الجاد على حفظ وترتيب القرآن بالسنة
ثم أصبحت الحاجة ماسة إلى تدوين العلوم ,
فدوّنت علوم الفقه والتفسير والحديث
ثم نشأ علم الكلام
ثم التصوف ,
أو كما يسميه ابن خلدون ( الطريقة ) أو آداب القوم
إن المجاهدة والخلود والذكر يتبعها غالبا
كشف حجاب الحسن و الاطلاع على عوالم من أمر الله
ليس لصاحب الحس أدراك شيء منها .
أن الإنسان بما هو إنسان يتميز عن سائر الحيوانات بالإدراك .
ويستنتج ابن خلدون من ذلك أن المريد في الطريق الصوفي
يتحصل في كل مجاهدة وذلك الحال ,
إما أن يكون عبادة تترسخ في نفسه فتصير له مقاما,
وأما أن تكون صفة للمريد ,
وهذه الصفة تكون حاصلة للنفس كأن تكون حزن , أو سرورا , أو كسلا ,
أو نشاطا إلى غير ذلك من مقامات ,
وينتهي ابن خلدون إلى القول أن المريد ما يزال يترقى من مقام إلى مقام
إلى أن يصل في النهاية إذا صدق إلى التوحيد والمعرفة
التي هي الغاية المطلوبة للسعادة ,
فالهدف النهائي للمريد الصادق في الطريق الصوفي
في رأي ابن خلدون
هو الوصول إلى التوحيد
وشهود أن لا إله إلا الله
ويؤيد ذلك بالحديث النبوي
من قول الرسول (صلي الله عليه وسلم)
من مات يشهد أن لا أله ألا الله دخل الجنة )
ويريد ابن خلدون أن ينبه على أن الترقي من حال إلى حال
ومن مقام إلى مقام
لابد أن يبدأ بالأيمان والطاعة والإخلاص
وهنا تصاحب مجاهدة المريد الأحوال والصفات
وتأتي عنها نتائج وثمرات
فإذا وقع تقسيم من المريد ,
أو خلل في الثمرات التي يتحصل عليها,
فإنما ذلك نتاج لالتفات المريد الحظوظ الدنيوية ,
أو لوجود آفات كالخواطر النفسية , أو الشيطانية
لذلك يحتاج المريد إلى أعاده النظر إلى نفسه
وعلاج عيوبها والرجوع إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله
لأن النتائج مقترنة بالأعمال .
ويضيف ابن خلدون
(إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر
يتبعها غالبا كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله
وهو ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها
والروح من تلك العوالم ,
وسبب هذا الكشف إن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن
ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه ,
فالذكر كالغذاء لتنمية الروح ,
ولا يزال في نمو وتزايد إلى أن يصير شهودا
بعد أن كان علما
ويكشف حجاب الحس ,
ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها ,
وهو عين الإدراك ,
فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي ,
وتقرب ذاته في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة)
ولهذا يتميز المتصوفة من خلال تلك المجاهدات
مشاهدات لا يدركوها غيرهم
وكأنهم يدركون الواقعات قبل وقوعها
ويذكر ابن خلدون :
حول الكشف ,
فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف
ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه
بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة
ويتعوذون منه إذا هاجمهم ,
فالصحابة كانوا أوفر حظا في هذا المجال بالكرامات .
وفي موضع آخر من المقدمة يقول
(ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب
والمدارك التي وراءه
واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك
باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر
حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها
فإذا حصل بذلك
زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها
حينئذ وأنهم كشفوا ذوات الوجود
وتصوروا حقائق كلها من العرش إلى الفرش ,
هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب إحياء علوم الدين
بعد أن ذكر صورة الرياضة ,
ولا يكون الكشف صحيحا كاملا عنده ,إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة )
وقد كان رأيه في الاستقامة للنفس
كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال ,
ولما عني المتأخرين بهذا النوع من الكشف
تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية
وحقائق الملك والعرش والكرسي
وأمثال ذلك
وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقة عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك ,
وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم ,
وليس بالبرهان والدليل بنافع.
(وإن أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه
وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور
لقوله في الحديث الذي يتناقلونه
كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني
وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصل الحقائق
وهي عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية
ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى ,
وهي مرتبة المثال
ثم عنها العرش
ثم الكرسي
ثم الأفلاك
ثم عالم العناصر
ثم عالم التركيب ,
هذا في عالم الرتق ,
فإذا تجلت فهي في عالم الفتق
ويسمي هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات
هو كلام لا يقتدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه
لغموضه وانغلاقه
وبعد مابين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل
وربما أنكر بظاهر الشرع على هذا الترتيب )
كما ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة ,
وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه ,
ويزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها
كنت حقائق الموجودات وصورها وموادها والعناصر بهيولاها
وزيادة القوة المعدنية
ثم القوة الحيوانية
والقوة الحيوانية تتضمن زيادة قوتها في نفسها ,
وكذلك القوة الإنسانية مع الحيوانية
ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة ,
وكذلك الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل
هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات
كلية وجزئية
وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء
ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة
فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية
وهي في الحقيقة واحدة بسيطة الاعتبار.
إلا أن وحدة الوجود هذه يفندها ابن دهقان ,
بأن هذه الدركات البشرية شريطة لوجود المدرك الحسي
(أما الموجودات المعقولة والمتوهمة
هي مشروطة بوجود المدرك العقلي
وليفترض عدم وجود المدرك البشري جملة
لم يكن هناك تفصيل الوجود
بل هو بسيط واحد
فالحر والبرد
والصلابة واللين
بل والأرض والماء
والنار والسماء
والكواكب
إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها
لما جعل في المدرك من التفصيل
الذي ليس في الموجود
وإنما هو في المدارك فقط
فإذا فقدت المدارك المفضلة فلا تفضيل
إنما هو إدراك واحد
وهو أنا لا غيره وهذا حال النائم إذا نام
وفقد الحس الظاهر فقد فقد كل محسوس
ولكن يؤخذ على ابن دهقان في هذا الأمر
بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه وإليه
يقينا مع غيبته عن أعيننا
وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا)
ولكن بعض المتصوفين المتأخرين
يقولون إن المريد عند الكشف
ربما يعرض له توهم هذه الوحدة
ويسمي ذلك عندهم مقام الجمع
ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات ,
ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق
وهو مقام العارف المحقق ,
ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع ,
وهي عقبة صعبة
لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفته ,
فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ,
وكذلك المتأخرين من المتصوفة ,
ومن المتكلمين منهم في الكشف قد توغلوا كثيرا في هذا الأمر,
فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة ,
وملؤا الصحف منه
مثل الهروي في كتاب المقامات وغيره
وتبعهم ابن عربي
وابن سبعين
وتلميذهما
ابن العفيف
وابن الفارض
وكان سلفهم من المخلصين للإسماعيلية
واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم
حتى ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب
ومعناه أنه رأس العارفين
وهو مقام لا يساويه أحد في المعرفة
حتى يتوفاه الله ليرث هذه المكانة لغيره .
أما ابن سينا في كتاب الإشارات
في فصول التصوف منها
فقال :
جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد
أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد
وهذا الكلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي ,
وإنما هو من أنواع الخطابة,
ودانوا به
ثم قالوا:
بترتيب وجود الأبدال
بعد هذا القطب
كما قاله الشيعة في النقباء .
وكلامهم هذا في أربعة مواضع :
الأول :
الكلام في المجاهدات وما يحصل من الأذواق
والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال
لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما
ليترقى منه إلى غيره ,
الثاني :
الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب
مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة
والوحي والنبوة والروح
وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها ,
الثالث :
التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات ,
الرابع:
ألفاظ موهمة الظاهر
صدرت من الكثير من أئمة القوم
يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات
تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول .
وللموضوع بقيه اخري في المقبل من الايام
ان قدر الله اللقاء والبقاء
ان شاء الله تعالي