اندلعت الثورة الشعبية فى (مصر) ، وقادها خيرة شبابها، وتصدوا ببسالة فطرية لقنابل الدخان، ومدافع المياه، وبلطجية النظام، وتصدوا بصدورهم للرصاص المطاطى والحى، وقمعوا ركاب الخيول والجمال والحمير، وأسقطوا نظاماً، ظل يتصوًَّر، فى غطرسة ما لها مثيل، أنه سيبقى أبداً، ولن يسقط مطلقاً.
فعلها الشباب، وبذلوا من أجلها الجهد والعرق والروح، وساندهم الشعب كله، وهم ينادون بمبادئ، عشت عمرى كله أحلم بها..حرية ... ديمقراطية ... عدالة اجتماعية.
وعندما نجحت الثورة، بلغت سعادتى مبلغها؛ لأن الشباب، الذين لم أفقد ثقتى فيهم يوماً، قد فعلوها.
صحيح أنهم ماكانوا لينجحوا، لو لم يقف الشعب كله خلفهم، ويؤيدهم فى مطالبهم المشروعة، وفى حقهم الدستورى فى التعبير عن رأيهم، حتى ولو خالف النظام وعارضه، ولكنهم من أشعل فتيل الثورة، وصمد أمام وسائل القمع، وربح النصر فى النهاية.
ولأننى كنت احلم بالحرية والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، فقد أيدًَّتهم، من قبل حتى أن تندلع ثورتهم، وللسبب نفسه سعدت بنجاحهم ونجاحها، وتصوًَّرت أننا بذلك نبدأ عصر حرية وديمقراطية حقيقى.
ولكن الصورة أتت مختلفة تماماً ..لست أعنى هنا تلك الفوضى الشعبية، التى انطلقت بلا ضابط أو رابط، والتى حوت كلها انانية منقطعة النظير، تسعى لمطالب فئوية، وأحياناً فردية، وفى أحياناً كثيرة انتقامية قمعية.
إننى أعنى فى الواقع تلك النزعة النازية الفاشية الجديدة، التى تولد على أرض الوطن..ومن الشباب أنفسهم ..الشباب الذين خرجوا، وثاروا، وقاتلوا، وتحملوا، وشاهدوا شهداءهم يدفعون أرواحهم، فى سبيل الحرية، والحق الدستورى فى التعبير عن الرأى، تحوًَّلوا فور انتصارهم، إلى جبهة ديكتاتورية قمعية، ترفض، وبشراسة، كل من يخالفها الرأى.
شباب خرج ينادى بحقه الدستورى فى التعبير، يصرخ الآن ثائراً، فى وجه كل من يستخدم حقه الدستورى فى مخالفته..وياله من مشهد مخيف..قوائم سوداء لأعداء الثورة، واتهامات بالخيانة والعمالة والتواطؤ!.
ما هذا بالضبط؟! هل حاربتم ومات شهداؤكم، من أجل إحلال ديكتاتورية بأخرى؟!
أهذا ما قاتلتم من أجله؟!..أهذا ما زهقت أرواح للوصول إليه؟!..ديكتاتورية جديدة، فى صورة مختلفة؟!..
ليس هذا بالتأكيد ما ثرتم من أجله، ولا ما أفنيت عمرى كله فى الدعوة إليه، والسعى خلفه.
ليس هذا بالتأكيد هو مفهوم الحرية..عندما بدأت باب عزيزى القارئ، فى سلسلة (كوكتيل 2000)، منذ عقدين من الزمن تقريباً، حرصت أشد الحرص، على إفراد المساحة الكاملة، لنشر الرسائل التى تهاجمنى، والتى تخالفنى الرأى، دون حذف حرف واحد منها، باستثناء الكلمات الخادشة للحياء، والتى كنت احل محلها قوسين بنقاط بينهما.
فعلت هذا على أمل إرساء قاعدة أساسية فى الحرية..فالحرية ليست فى أن تحارب من أجل حقك فى التعبير عن رأيك، بل فى أن تقاتل فى استماتة، من أجل حق من يخالفك، فى التعبير عن رأيه.
لقد قاتلتم للخلاص من نظام، كان يرى أن رأيه وحده هو الصحيح، وكل من يخالفه أو يعارضه عدو، يستوجب الاعتقال والتنكيل والتعذيب.
وأنتم اليوم ترون أنكم وحدكم على حق، وكل من خالفكم أو عارضكم على خطأ.
الفارق الوحيد الآن، بينكم وبين النظام الذى اسقطتموه، هو أنكم لا تمتلكون وسائل الاعتقال والقمع والتعذيب، وقهر الرأى والفكر.
شبكة الانترنت، التى حشدت شعباً للثورة، صارت الآن ساحة كبرى للديكتاتورية، وقمع أى رأى معارض..وليس هذا حتماً ما حاربت من أجله، ولا ما سعيت إليه.
حتماً ..وأبداً ..لقد حاربت، واحارب، وسأظل أحارب، من أجل الحرية وحق التعبير.
حاربت النظام السابق، وهاجمته، ونقلت ميدان الكتابة، من السلاسل القصصية إلى الكتابات السياسية، غضباً من ديكتاتوريته، وقمعه، وقهره لكل رأى مخالف، وكل فكر معارض.
كان يمكننى أن أربح – مادياً – أكثر بكثير، لو اننى سرت فى ركاب النظام، وانحنيت لديكتاتوريته، وخاصة بعد عملية زرع كلية، وعلاج شهرى بالآلاف.
ولكننى أخترت الحرية..لم أبال بتحذيرات وتهديدات، ومنع حق العلاج؛ لأن الحرية هى الهدف الأسمى، لكل صاحب رأى أو فكر أو قلم.
ولقد عملت طيلة عمرى من أجل الشباب، ومن اجل الوطن، ومن أجل الحرية، وبترتيب عكسى.
ولو بدأ الشباب تلك النزعة النازية، واعتنقوا سياسة (بوش) الابن، بأن من ليس معنا فهو عدو، فسأجد نفسى مضطراً للوقوف فى وجوههم، والمحاربة مرة أخرى من أجل الحرية.
فالحرية هى الأساس..أساس مجتمع متطوًَّر.. متحضًَّر.. راق.
راجعوا موقفكم وأسلوبكم يا شباب، وآمنوا فعلاً بالحرية، التى حاربتم من أجلها.
آمنوا، ليس بحريتكم وحدكم، ولكن بالحرية، بمضمونها الشامل.
آمنوا بحريتكم، وحرية من يخالفونكم الرأى.
آمنوا بالحق الدستورى فى التعبير..اعتنقوا سياسة الخلاف والاختلاف .. والحق فى الخلاف والاختلاف .
لا توجد قائمة لأعداء الثورة .. ولا يوجد أعداء للثورة ..يوجد فقط إناس يخالفونكم الرأى، ومازالوا يخالفونكم، وسيظلوا يخالفونكم ..لأنهم باختصار .. أحرار .. مثلكم .
أنتم أحرار .. وهم احرار ..هذه هى الحرية .. الحقيقية.
أعلم أن الحماس الثورى، وصدمة النجاح العظيم هو ما جرف المشاعر إلى ذلك التطرًَّف فى المشاعر والأحاسيس، ولكن بناء مجتمع جديد، قائم على الديمقراطية والحرية والعدالة، لا يصنع بالحماس وحده..بل بالعقل ..والتعقًَّل ..والمبادئ ..والفكر ..وفوق كل هذا .. العمل.
وبناء (مصر) الحرة يستلزم فكر حر، ديمقراطى، عاقل ..فكر يؤمن بحرية الرأى.. والرأى الآخر.
بناء (مصر) الحرة، يحتاج إلى شباب حر ..شباب يؤمن بالحرية، قولاً .. وفعلاً.
وما يحدث الآن يخالف كل هذا..لقد حوًَّلتم أنفسكم، بانتصاركم، إلى حزب وطني جديد، وأمن قمعي مختلف.
الاتهامات التى توجهونها إلى من عارضكم ويعارضكم، هى قنابل الغاز، التى القيت عليكم.
السخرية من كل رأى مخالف، هى مدافع المياه، التى أطلقت فوق رءوسكم.
الوصم بخيانة كل من لا ينضم إليكم، هو الرصاص المطاطي، الذى أصاب أجسادكم.
هم فعلوها معكم ، لأنكم عارضتموهم، وخالفتموهم الأمر، وانتم فعلتموها مع من عارضوكم، وخالفوكم الرأى.
أخبروني بالله عليكم إذن، فيم تتصوًَّرون أنكم تختلفون عنهم؟!.
أفي أنكم لا تمتلكون قنابل غاز أو مدافع مياه، أو رصاص مطاطي أو حي؟!.
أفرحوا بانتصاركم يا شباب، واحتفلوا بنجاح ثورتكم، وافخروا بما حققتموه وأنجزتموه، وارفعوا رؤوسكم عالياً، بما بهرتم به العالم.
ولكن الاهم .. حافظوا على كل هذا ..كسبتم الحرية، فابذلوا جهدكم للحفاظ عليها.
ربحتم ديمقراطية، فمارسوها بحق.
طالبتم بعدالة اجتماعية، فابدأوا بأنفسكم فيها.
ارسوا قواعد حرية حقيقية، يملك كل فرد تحت ظلها، كل الحق، فى التعبير الحر عن رأيه، سواء اتفق أو اختلف مع آراء الآخرين.
أعلنوا ديمقراطية، تحترم فيها الاغلبية حقوق الأقلية.
مارسوا عدالة اجتماعية، لا فرق فيها بين غنى أو فقير، صغير أو كبير، مؤيد أو معارض.
صنعتم ثورة، فحافظوا عليها ..حققتم انجازاً، فلا تهدروه.
احلموا يا شباب بالمستقبل.. مستقبل (مصر) ..احلموا بمستقبل حر .. ديمقراطي .. متطوًَّر .. متحضر .
احلموا.. واعملوا لتحقيق حلمكم.. وحلمنا جميعاً.. تحمسوا.. واحلموا.. واعملوا.. بحرية.. وديمقراطية.. وعدالة .. اجتماعية.. شاملة.
احلموا.