"حالة حرب"
بدأت رجفة أطرافه تزداد كلما اقترب الوقت،
مسح كفه المتعرقة فى ردائه المتسخ
وزاد من الضغط على مقبض سيفه .
الجميع يتحرك من حوله ..
فالصفوف يعاد ترتيبها والأفراد يتخذون مواقعهم النهائية
وهو واقف مشدود كالوتر.
شعر و كأن الكون بأكمله يدور و يتحرك من حوله ..
و من بعيد لاحت الأشجار وقد اتخذت فى ذلك الوقت طابعاً قوميا
و كأنها تلقى النظرة الأخيرة على البعض ..
قطع سيل أفكاره صوت أحدهم :
( سيدى لقد اتخذ الجميع مواقعهم)
أجابه بإيماءة من رأسه و تطلع الى خط الأفق
الذى اكتسى باللون الأحمر معلنا إشارة البدء ..
سار عدة خطوات الى أن وصل الى جواده الأسود
الذى بدا وكأنه يشارك قائده توتره ..
بحركة رشيقة اعتلى صهوة الجواد و ربت على رقبته قائلا :
( لطالما انتظرنا ذلك )
لكز الجواد بكعبه ليسير الجواد بخطى بطيئة أولا
ثم زاد من سرعته تدريجياً ..
تحرك القائد أفقياً ليصل الى كل الجموع ثم صاح :
( أيها الجنود ... )
و أدهشه الى حد ما أن يخرج صوته مدوياً إلى هذا الحد ..
تنبه الجميع و ساد سكون رهيب ..
حتى الضباب ذاته بدا وكأنه قد سكن .
أكمل صائحاً :
( لطالما انتظرنا هذه اللحظة ...
أيها الأبطال إنه الوقت الذى يسود فيه الحق ..
انه الفجر الذى سينزوى معه الليل الطويل ...
أيها الأبطال هذا يومكم )
كانت عبارته بمثابة الوقود الذى أشعل حماسة الجنود
فصرخ الجميع ..
صرخة زلزلت المكان أو الفضاء ذاته لا يهم
حتى الجياد تحفزت ..
استل القائد سيفه و أدار جواده الأسود و انطلق ..
لينطلق الجميع من خلفه تسبقهم صيحاتهم المتعطشة .. المتحفزة
انتابته حماسة شديدة
وكأنه شعلة متأججة وصار يلكز الجواد لكزات سريعة متتابعة
وكأنه يحاول أن ينقل للجواد هذه الحماسة ..
و يبدو أنه قد نجح فى ذلك إذ أن الجواد عدا وكأنه يسابق الريح.
كان المشهد أسطورياً ..
مشهد الجنود يتحركون بهذه السرعة
حتى لتشعر وكأن سياط الحماسة تلهب ظهورهم
ومن بعيد لاحت المدينة ...
شعر القائد وكأنه فى عالم الأحلام ..
الهواء يرتطم بوجهه ليزيد من اضطرام نار الحماسة بداخله
و الأشجار من حوله تبتعد مسرعة ً تبعاً لسرعة الجواد الفائقة ..
مشاعر غريبة مضطربة احتدمت بداخله لا يدرى كنهها ..
أهى السعادة؟ .. أم الخوف؟!
كانت خطته تقتضى بأن يتم إرسال فرقة خاصة من الجنود
تقوم بفتح بوابة المدينة بعد التخلص من الحراس ورماة السهام ..
وصلته الإشارة بنجاح العملية
وهاهى خطته على وشك النجاح
إلا أن شعور بالتوجس مازال يسكنه ولا يدرى له سبباً ..
اقتربت بوابة المدينة المفتوحة شيئاً فشيئا
و اقترب معها حلم لطالما راوده وحركه لأعوام.
دخلت الجموع المدينة
وكان ذلك بمثابة فتيل زاد من حماس الجنود أضعاف
عدد قليل من الحراس داخل المدينة تنبه إلا أن ذلك لم يكن كافياً
لصد ذلك السيل الجارف ..
تغلغل الجنود داخل المدينة للتأكد من الإستيلاء عليها بالكامل.
اتجه القائد مع مجموعة من الجنود ناحية القصر الملكى ..
كان الشعور بالنصر يتملك القائد شيئاً فشيئا
إلا أنه أبى أن ينساق كلياً خلف هذا الشعور
إلا بعد التأكد من إتمام الأمر تماما .
فوجىء حراس القصر الملكى بذلك الهجوم المباغت
وصار القائد يضرب يميناً و يساراً
ضربات قوية فتاكة .. معركة صغيرة انتهت قبل أن تبدأ ..
أصبح الآن فى ساحة القصر الملكى ..
ترجل عن فرسه و تابعه الجنود داخل القصر ..
تطلع من حوله إلى الحدائق الغناء
و نافورات المياه ذات الأشكال الأسطورية
وقال بسخرية :
( ياله من ترف ! .. )
اقتحم بوابة القصر محطماً إياها ..
ليجد الملك وحاشيته ومن حولهم جوارى القصر يرقصون ..
ألجمت المفاجأة الملك
وجحظت عيون رجال الحاشية
حتى ولكأنها ستخرج من محجريها .
قال القائد وشبح ابتسامة ساخرة على وجهه :
( عذراً على انتهاء حفل الليلة مبكراً )
انتفض الملك ونهض بعض رجل الحاشية
ثم صاح أحدهم بعصبية تليق به:
( أنت؟ .. كيف أتيت إلى هنا؟ ..
يا حراس )
رد القائد و قد ازدادت سخريته :
( حراس؟ .. أى حراس ..
إنها النهاية أيها الحقير )
قام الملك واقفاً وشبح الفهم قد غزا ملامحه
ثم قال ببطء :
( أنت؟ .. أنت يا (خالد)
قائد المتمردين؟)
رد (خالد) بتحدٍ
: (نعم أنا ..
أنا الذى حرمته من وطنه الذى لطالما عاش فيه و عشقه ..
أنا الذى نفيته للصحراء لأعوام لمجرد أنه لم يرضَ أن تعش مخدوعاً )
صاح أحد رجال الحاشية وقد كان أضخمهم :
( لقد حاولت قلب نظام الحكم .. وقتل الملك )
خالد بحدة :
( اخرس أيها المخادع ..
سأقطع لسانك الكذاب هذا .. )
احتقن وجه الرجل وزاد جحوظ عينيه
ثم استطرد (خالد) موجهاً الحديث للملك :
(هؤلاء هم من سمموا عقلك لأعوام ..
جعلوك بعيداً كل البعد عن الناس ..
صار هناك جبال من الجليد بينك و بين شعبك ..
جبال لن تذيبها آلاف الشموس )
أكمل موجهاً كلامه لجنوده :
(خذوهم .. ليذوقوا بعض ما عملوا )
جر الجنود رجال الحاشية إلى الخارج
وسط توسلاتهم بالرحمة
قال الملك وقد ازدادت سرعة تنفسه
و بدا متلعثماً :
(خالد .. لـ .. لقد كنت شاعر المدينة و .. أرجوك ..
سأعطيك نصف المُلك .. لا .. المُلك كله ... و ..
ولكن اتركنى أعيش )
رد (خالد) وقد بدا الأسى فى نبرة صوته :
(ولماذا لم تتركنى أنت؟ ...
عذبتنى فى السجن لأعوام ثم كان النفى للصحراء .. للهلاك ..
كنت على وشك الإنهيار ..
إلى أن انتشلنى جماعة من المنفيين ..
مجموعة أخرى من ضحاياك ..
كانوا قد استوطنوا الصحراء ووجدوا بقعة يعيشون فيها ..
قررت أن أنتقم .. قررت أن أحرر هذه المدينة من الطغاة ..
ظللت لأعوام أستقطب الناس ضدك ..
انتشل من قمت بنفيهم ..
حتى كونت جيشاً .. جيش الخلاص .. جيش الإنقاذ)
قال الملك جاحظ العينين :
(إنهم رجال الحاشية .. هم .. هم أوهمونى بـ ... )
قاطعه (خالد) بحسم :
( أنت تعلم ما يحدث ولا تريد أن تصدق ..
لا تريد الإعتراف بالواقع .. بفشلك كحاكم ..
دُفِن الواقع بالنسبة لك وسط جواريك و حدائقك
ونسيت شعبك و البؤس الذى يفتك به يوماً بعد يوم ..
هيا استل سيفك و قاتلنى كرجل )
استل الملك سيفه قائلاً
بصوت كالفحيح :
(لقد كنت شاعرى المفضل ..
كانت أشعارك تطربنى حقاً ..
يؤسفنى أننى سأقتلك ..)
ثم تابع صارخاً :
(سأقتلك ولو كان هذا آخر ما أقوم به)
تلاقت السيوف ومعها تلاقت العيون
التى لمعت ببريق بدا وكأنه يضاهى بريق السيوف
فى قوة .. فى عزم تتابعت الضربات من كليهما
إلا أن فارق السن لعب فى صالح (خالد)
الذى انتزع سيف خصمه بحافة سيفه
بحركة بارعة لا تصدق ..
سقط سيف الملك أرضاً محدثاً ضجيجاً عالياً
و تردد صداه فى جنبات القصر ..
معلناً نهاية المعركة.
تراجع الملك عدة خطوات للخلف
وبدا الإرتياع على وجهه ..
تقدم (خالد) ببطء شاهراً سيفه فى وجه خصمه
وقال بصوت يملؤه النصر :
(نهاية طاغية آخر .. )
سدد سيفه فى صدر غريمه و ..
(كااات)
صوت أحدهم من الخلف قائلاً :
( نسيت العبارة .. إنها
(حانت النهاية .. نهاية طاغية آخر)
بدا الإمتعاض على وجهه وقال :
( سنعيد هذا المشهد ثانية .. أكشن .. )