على هامش الثورة المصرية .. (غضب الشعب بين المطالبة بالحق وإرهاصات المؤامرة)
كتبها : الشيخ حمّاد أبو عبد الله القباج المغربي
إن المتأمل في تسلسل الأحداث في الآونة الأخيرة؛ ينتابه كثير من الريب من الترابط القائم بينها:
تسريبات (ويكليكس) وما يحفها من قرائن توحي بدخولها في مخطط مدروس، أكثر من كونها ثورة إعلامية حرة...
طريقة تعامل الغرب مع سقوط حكم "بن علي" مع الحرص على بقاء نظامه قائما..
تفجيرات الكنيسة المصرية وتصريحات بابا النصارى..
الوقت والسياق الذي كشفت فيه "قناة الجزيرة" عن فضائح "السلطة الفلسطينية"..
التصريحات والمواقف الأمريكية بشأن الأحداث في مصر..
كل هذه المعطيات -ومثلها- تدل على وجود تخطيط له أهداف معينة.
وإذا كان يصعب علينا الآن الجزم بوجهة هذا المخطط، وتفاصيل أهدافه؛ فإننا نستطيع أن نترسم خطى التوجيهات الشرعية التي تضمن السلامة من الفتن والنجاة من كيد المتربصين..
وهذا سبيل جوهري لتفادي الوقوع في فخ المؤامرة التي تريد توظيف الغضب الشعبي لصالح سياساتها الماكرة.
من هنا جاءت هذه المقالة لتسليط الضوء على المعالم الشرعية في طريق وقاية بلدنا من التداعيات السلبية لأحداث دول شقيقة انفجرت فيها قنابل الكيد السياسي الغادر على أرض الظلم الاجتماعي الفاجر:
المعلم الأول: التشبث بالبيعة الشرعية:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشا من مؤمنها ولا يفي لذي عهدة عهده فليس مني ولست منه" [رواه مسلم في صحيحه].
قال النووي: "قوله صلى الله عليه و سلم: "من فارق الجماعة مات مِيتة جاهلية"؛ أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم"اهـ.
وقوله صلى الله عليه و سلم: "ومن قاتل تحت راية عُمِّيّة" هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه؛ كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور"اهـ .
فهذا الحكم الشرعي جاء لمصلحة الأمة وصيانتها من الفتن العمياء التي يصعب معرفة مآلاتها.
ومما تتميز به بلادنا على كثير من الدول الإسلامية؛ محافظة الدولة على نظام البيعة الشرعية، وهذا مكسب لا ينبغي التفريط فيه بحماسات فارغة تولد ردود أفعال طائشة، ولا ينبغي التساهل مع المتربصين به من أدعياء حقوق الإنسان الذين يعملون لصالح الغرب ومبادئه، ولن يترددوا في إسقاط نظام البيعة متى أتيحت لهم الفرصة.
المعلم الثاني: يجب على المسؤولين من وزراء وولاة وغيرهم أن يبذلوا جهدهم لتمتيع المواطن بحقوقه الشرعية التي توفر له حياة كريمة؛ جماعها: الأمن والرخاء الاقتصادي؛ كما قال الله تعالى: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش/4].
وهذا يقتضي الوقوف في وجه الفساد الذي استشرى واستفحل أمره، وأدّى إلى نهب المال العام، والاختلاس من الميزانيات المخصصة للمشاريع التنموية، وتفشي المحسوبية بدل اعتماد الأكفاء والمؤهلين، وتوظيف الأنشطة السياسية لتحقيق الأطماع الشخصية؛ من توسيع الثروات، وبسط النفوذ، وغير ذلك من أنواع الفساد التي تكرس الظلم والاستبداد وتضخم ثروة القلة على حساب الكثرة المستضعفة المحرومة من حقها الشرعي في العمل وثروات البلاد والزكاة .. إلـخ.
المعلم الثالث: الحذر الشديد من التمكين لغلاة العلمانية الذين يسعون لاستئصال أحكام الشريعة والخطاب الدعوي ومظاهر التدين من المجتمع؛ فإن هؤلاء يتزعمون صفوف الكائدين للأمة بالتحالف مع أعدائها والثورة على أمنها باسم الحرية وحقوق الإنسان، ثم ينقلبون إلى عملاء أوفياء يتحركون حسب تلويحات عصا الترغيب والترهيب (النظام الذي أسسه بورقيبة مثالا).
وقد شرحت في مقالتين مؤخرا؛ الدور الذي لعبته العلمانية فيما جرى في تونس من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتضخم الفوارق الاجتماعية، وما ترتب على ذلك من انفجار اجتماعي أدى إلى ثورة غير محسوبة العواقب، تخللتها ممارسات غير شرعية؛ كالانتحار وقتل الشرطة لمتظاهرين وتحرك عصابات النهب والتخريب.. إلـخ.
المعلم الرابع: اجتهاد العلماء والدعاة في أداء واجب البيان، وتوعية الناس بخطاب شرعي يحمي البيضة ويحفظ الوحدة ويدرأ الفتن، ويكشف الشبهات التي يثيرها الفتانون الذين يزعمون أن الخطاب الشرعي يراد منه خدمة الأنظمة وتسكين الشعوب كي لا تطالب بحقها!
ولو تأمل هؤلاء وأنصفوا لعلموا أنه خطاب واقعي إصلاحي يجمع بين مقصدين جليلين:
الأول: المطالبة بالعدل في شتى الميادين وتحقيق الأمن الاقتصادي.
الثاني: المحافظة على الاستقرار وتحقيق الأمن السياسي والروحي.
بخلاف الخطابات الحماسية والثورية التي تسعى لمحاربة نوع من الفساد دون اعتبار للمآلات ولا موازنة بين المصالح والمفاسد، وأسوأ منها تلك التي تريد استغلال انتفاضة الشعوب ضد الفقر والاستبداد، وركوب تضحياتهم؛ لتحقيق أطماع سياسية تستمر بسببها العمالة للغرب .. (وإلا؛ فما معنى المسرحية التي يمثل فصولها البرادعي في "مصر" على نغمات ثورة المستضعفين، وهو الذي أعان أمريكا على غزو "العراق" وشارك في أكذوبة أسلحة الدمار الشامل؟؟)
ومن المهم في هذا الصدد؛ أن يتخلى المكلفون بتدبير الشأن الديني عن السياسات الإقصائية، وفرض نموذج معين للتدين باسم محاربة التطرف والإرهاب؛ الأمر الذي يصب في خدمة مصالح الدول القوية على حساب وحدة المسلمين وأمنهم واستقرارهم؛ فتضرب بعضهم ببعض وتزرع بينهم بذور الشقاق والعداوة ..
هذه الدول التي انكشف للجميع أنها تستخدم الأنظمة والمسؤولين السياسيين لمصلحتها، ثم تتخلى عنهم وتتنكر لهم كأن لم يكن بينها وبينهم مودة! (شاه إيران وطاغية تونس نموذجا).
ولا أعني بما ذكرت ترك الحبل على الغارب وإغفال الرقابة على الحقل الديني، وإنما المستنكر استئصال المخالف لأنه يرفض تبني مذهب أو طريقة في التدين يراها مخالفة للصواب، وإقصاء الأكفاء الذين قامت الشواهد والبينات على حرصهم الشديد على أمن البلاد والعباد، وسلامتهم من تبني العنف والفتن والاضطرابات والقيام بالممارسات الإرهابية التخريبية.
المعلم الخامس: وهو عبارة عن نصيحة إلى الشعوب الثائرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" [رواه مسلم].
وأجملها في أمرين:
1- ضرورة الالتزام بالأحكام الشرعية والتحلي بالأخلاق الإسلامية التي تهدي إلى المواقف السليمة في خضم الفتن المدلهمة..
2- تضيق الخناق من طرف الأنظمة الجائرة لا ينبغي أن يولد ردود أفعال طائشة تؤدي إلى خدمة مصالح الأعداء الذين يتربصون بالأمة الدوائر، وعليها أن تحذر أن تساق إلى مواقف تؤدي إلى أسوأ مما كانت تعاني منه..
ولنستحضر أحوال دول زرع فيها الأعداء بذور الفتن والثورات العمياء باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان، ثم تركوها تتخبط في الدماء والاضطرابات ويتمزق جسدها بأنياب الفقر والجهل والتخلف:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران/149، 150]
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}. [آل عمران/118-120]
وإنني لا أستبعد أبدا أن يكون لما يجري الآن؛ ارتباط بفشل أمريكا وحلفائها في أفغانستان وباكستان من جهة، وتمكنهم من إيجاد دولة جنوب السودان تجعلهم في استغناء عن النظام المصري المستبد الذي طالما لعب الأدوار المهمة في أمن (الدولة العبرية)..
كما لا ينبغي أن نغفل عما (للوبي الصهيوني) من مصلحة كبيرة في خلق الفوضى واستثمارها لمنافعه الاقتصادية والأمنية، بل توظيفها لخدمة مشروع الهيمنة والاستعباد للبشرية الذي يسعى لتنفيذه من منطلق عقيدة الاستعلاء وشعب الله المختار.
ولنستحضر هنا بأن (ويكليكس) لم تسرب شئ كبير يخص (الدولة العبرية)، كما أن ما نشرته (وثائق الجزيرة) مع كونه يفضح خيانة بعض المسؤولين إلا أنه يصب في مصلحة الصهاينة بشكل كبير..
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يكفي بلدنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرفع الظلم والقهر والغلاء والفقر والخوف عن كافة بلاد المسلمين، وأن يصلح أحوالهم ويولي عليهم من يرحمهم وأن يكفيهم بطش الظالمين المستبدين وكيد الكائدين ومكر المتربصين و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم