القليوبية.. معمل الأفكار التى شكلت وجدان مصـر
«جمال حمدان» و«الهضيبي» و«كمال الدين حسين» و«آل محيى الديـن» ولدوا وعاشوا فيها..
القليوبية، وإن كانت عند «الصعايدة» تقع ضمن مسمى «البلاد اللى بجرى مصر»، إلا أنها فى التاريخ الذى بدأ بالفتح العربي الإسلامى تحتل مساحة كبيرة، وتلعب دورا مهما، فهى فى الوقت الحالى محافظة ضمن إقليم «القاهرة الكبرى» الذى يضمها مع القاهرة والجيزة..، لكنها كانت محطة مهمة من محطات القبائل العربية الفاتحة، وأرضها الزراعية شفت غليل القادمين من صحراء «نجد» و«اليمن» و«الحجاز» وبادية الشام، لهذا يمكن اعتبار «القليوبية» خلفية وامتدادا للعاصمة
ولا يمكن نسيان ثلاثة أسماء جعلت هذه المحافظة شريكا ومسرحا لصناعة التاريخ.. الاسم الأول «القليوبية» نفسها، فهو اسم قبيلة عربية من القبائل التى هاجرت فى غضون القرون الثلاثة الهجرية الأولى والاسم الثانى «الليث بن سعد» فقيه مصر الذى كان يزرع ويقيم فى بنها التى اسمها عند العامة والمؤرخين «بنها العسل» ، وورد ذكرها فى سيرة «الظاهر بيبرس» بنفس الاسم، والاسم الثالث «جمال حمدان» صانع فلسفة الثورة ـ ثورة جمال عبد الناصر ـ فهو صاحب نظرية الدوائر الثلاث «العربية، والافريقية ، والإسلامية» وأسماء أخرى سوف نتوقف أمامها ونحن نرسم بورتريه لمحافظة شديدة الأهمية والثراء فى آن..
عندما فتح العرب «مصر»، مروا من «سيناء» ، ثم الشرقية، ثم اقتحموا الدلتا، فتركوا بصمتهم على «الدقهلية» و«المنوفية» و«القليوبية»، ثم امتد هذا الأثر إلى القاهرة، وبعد ذلك اتجهوا إلى «الإسكندرية» و«الصعيد»..
وتعريب القليوبية، خلف وراءه عربان «ابن حبيب» أو «الحبايبة» ومازالت فى القليوبية قرية أو منطقة تحمل ذات الاسم، وعربان «ابن حبيب» كان لهم دور فى الحرب ضد الحكام المقيمين فى «القاهرة»، هى حروب لا نستطيع أن نسميها حروب تحرير أو حروب تطهير، إنها حروب ذات دافع اقتصادى سلطوى خالص، ومما يروى عن عربان «الحبايبة» أنهم دخلوا اسطبل أحد خلفاء الفاطميين فقطعوا ذيول خيوله التى تعد بالآلاف، وهربوا والخيول بدون ذيول لا قيمة لها، على هذا المنوال ....
هذه الحادثة البسيطة، تدل على أن «العربان» فى القليوبية كانوا قوة لا يستهان بها، وظلوا فاعلين حتى جاءت حملة «نابليون»، وتحولت «القليوبية» إلى مكان يحتمى فيه المماليك والعثمانيون طوال فترة التخطيط لإجلاء الفرنسيين عن مصر، وهناك صراع يذكره الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر فى نهايات عصر المماليك أسفر عن انقسام قبلى شهدته القليوبية بين «سعد» و«حرام»، حتى إن بعض المترجمين المصريين لم يفهم كلمة «حرام» وترجمها على أنها «الحرام» من التحريم!
وسيرة «الظاهر بيبرس» وهى السيرة الشعبية الوحيدة ذات الأصول المصرية، تتخذ من «القليوبية» مكانا لكثير من أحداثها، إذن «القليوبية» تمثلت فيها عملية الالتقاء بين العناصر أو الأعراق التى دخلت مصر «العرب، المماليك، اليونانيون والفرنسيون.. الخ».
هذا المكان العبقرى، هو الذى قدم لنا فقيه مصر «الليث ابن سعد» واحتواه، فالفقه الإسلامى المنسوب إلى «الأئمة الأربعة، يضم فقه إمام مهم هو «الشافعى» القرشى الذى ضرب المثل على التطور الفكرى للباحث أو الفقيه، فالشق الذى قضاه من عمره فى الحجاز ، أصدر فيه آراء فقهية تختلف عن الشق الذى قضاه فى مصر، فاختلاف الأرض والطبيعة وظروف المعيشة، ينتج عنه اختلاف فى «الرأى» والفكر، هذا ما حدث مع الإمام "الليث" أو "الليثى" كما هو معروف عند العامة، فهو «مصري» عاش ومات يزرع ويسقى ويربى النحل، وكان يرسل منه إلى «المدينة» ليأكل علماء مكة ومنهم الإمام «مالك» وغيره، وكانت فتاواه تمثل نهجا ونظرة زراعية للإسلام، تتناسب مع الطبيعة الفلاحية، لهذا قال عنه «الشافعى»: «الليث أفقه منى.. لكن قومه ضيعوه»، بمعنى أن «الليث بن سعد» كان بشهادة «الشافعى» فقيها على درجة عالية من الأهمية، لكنه لم يترك وراءه أثرا علميا أو كتابا يمكن الرجوع إليه..، والإمام «الليث» مدفون فى «القاهرة» القديمة وله ضريح ومسجد يزوره عشاق التصوف والمتصوفون..
على أرض القليوبية عاش الضابطان «كمال الدين حسين» و«خالد محيى الدين» وهما من العناصر المؤسسة لتنظيم «الضباط الأحرار»، لكن لكل منهما انتماء فكرى يناقض الآخر..، «كمال الدين حسين» وزير التعليم فى السنوات الأولى للثورة كان ذا ميول «إخوانية» وكان تأثيره فى «التعليم» خطيرا جدا، فإليه تنسب أول عملية «أسلمة» للتعليم، وإليه تنسب أول عملية "تفريغ" للجامعة من كوادرها العلمانية، ولولا اختلافه مع «جمال عبد الناصر» حول حرب «اليمن» وخروجه بالعبارة الشهيرة التى قالها «حرب اليمن.. لا ناقة لنا فيها ولا جمل» لتحولت الحياة تحولات على عكس هوى «عبد الناصر» وغيره من "الضباط" ذوى التوجه القومى العروبى والإصلاحى..، وظل كمال الدين حسين فى بيته سنوات طويلة إلى أن لقى ربه ولم يترك فى تاريخ الثورة غير دوره السلبي فى إهدار كرامة اساتذة الجامعة وفصلهم وتشريدهم بتهمة «الشيوعية»..!
أما «خالد محيي الدين» فهو ضابط «يسارى» التوجه، كان له دور مهم ليلة الثورة وكان له دور مهم فى أزمة «مارس 1954» الخاصة بالديمقراطية، فقد اختلف الضباط حول موضوع «الديمقراطية»، هناك من قال بعودة الجيش إلى المعسكرات وتسليم البلاد إلى قيادة «مدنية» مع عودة الأحزاب..، وهناك من قال بعكس هذا الرأى، وانهزم التيار الديمقراطى، وتم تغريب «خالد محيى الدين» إلى أوروبا، ثم أعيد مرة أخرى ليتولى مهام سياسية فى الاتحاد الاشتراكى وفى الصحافة، وعندما تم تأسيس المنابر، أصبح رئيسا لمنبر «اليسار» الذى هو «حزب التجمع» الكائن فى شارع كريم الدولة بالقاهرة..
«خالد محيى الدين» من عائلة ذات أصول «كردية» وله ابن عم هو «زكريا محيى الدين» الرجل الذى رشحه «عبد الناصر» ليتولى أمور البلاد فى خطاب التنحى الشهير الذى ألقاه «عبد الناصر» بعد وقوع هزيمة «1967»، وقيل إن الهدف من ترشيح «زكريا محيى الدين» هو إحراقه جماهيريا لأنه كان ذا ميول غربية بالتحديد أمريكية، وقيل إن «عبد الناصر» اختاره ليكون «رئيس مصر» القادر على دخول مفاوضات مباشرة مع الصهاينة والأمريكان، رغم أن «زكريا محيي الدين» هو مؤسس أول جهاز مخابرات فى تاريخ ثورة يوليو ولم يعرف عنه اتصال بالغرب - مقارنة بالسادات- والثالث من «آل محيى الدين» بمركز«كفر شكر» بمحافظة القليوبية هو الدكتور «فؤاد محيى الدين»، الذى روى عنه «يوسف إدريس» الكاتب الكبير وزميله فى كلية الطب بجامعة القاهرة، أنه صعد قبة الجامعة وقال بأعلى طبقة فى صوته «سوف أكون رئيسا لوزراء هذا البلد»، وقد كان.. اختاره الرئيس «السادات» ليكون رئيسا للوزراء!!
ومن «شبين القناطر» التابعة للقليوبية خرج اثنان من مرشدى جماعة «الإخوان المسلمين»، «حسن الهضيبى»، وولده «مأمون الهضيبى»، والاثنان ظهرا فى فترات حرجة من تاريخ «مصر»، ولهما شهرة واسعة فى حركة الإخوان وتاريخها الطويل الذى بدأ فى عام «1928» على أيدى «حسن البنا» الزعيم الموهوب فى التنظيم، لأن التنظيم علم قبل أن يكون «كلام»..، ومن «الساسة» إلى «العلماء» تظل أرض «القليوبية» حاضرة معنا..، فلنتوقف أمام الدكتور «جمال حمدان» ، فهو واحد من «الأفذاذ» فى تاريخنا، هو أستاذ للجغرافيا فى جامعة «القاهرة»، درس فى بريطانيا، وعاد ليدرس مادته للطلبة، وكان الراحل يحيي حقى الأديب المشهور قد أسس مجلة «المجلة»، واستكتب فيها عددا من أساتذة الجامعات المصرية، كان من بينهم «حمدان»، وعلى الفور التقطت القيادة «الناصرية» فكرة قالها هذا العالم الجغرافى السياسى.. هى فكرة «الدوائر الثلاث» ، بمعنى أن سياسة مصر يجب أن تلعب وتدور وتعمل فى الدائرة «الإفريقية» والدائرة «العربية» والدائرة «الإسلامية»، وهذا ما كان قائما فى عهد «عبد الناصر» بقوة، فشاركت مصر فى حروب التحرير الأفريقية والعربية، وكان لها دور فى الدول الإسلامية، ومع كل عناصر هذه الدوائر كانت مصر تنسق فى الأمم المتحدة، لهذا كان لها حضور على الساحات الثلاث..، و«جمال حمدان» هو نفسه صاحب الكتاب الأشهر والأهم «شخصية مصر» الذى قرأ فيه عبقرية المكان وانعكاس الجغرافيا على الإنسان والتاريخ..
الدراما فى حياة هذا العالم الراحل، بدأت عندما تم تخطيه فى الترقية فى قسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة، فقرر أن ينعزل ويعتزل الحياة، وبقى فى بيته وحيدا، لا يربطه بالعالم غير «راديو صغير» وكان «البواب» يحضر له طعامه الذى لم يزد عن «الفول» و«الزبادى»، ثم مات محترقا فى التسعينيات وطرح الناس سؤالا: هل قتلت «إسرائيل» «جمال حمدان»؟ ولم يجب أحد عن هذا السؤال، رغم أنه ـ أى حمدان ـ له دراسات مهمة حول «سيناء» وحول «اليهود» فى التاريخ، وهو أحد الذين تنبأوا بزوال دولة «إسرائيل» من الخريطة السياسية..
عاش «جمال حمدان» كما يعيش الزهاد، وكانت «الفلوس» بالنسبة له لا تساوى شيئا، كان يعطى أقاربه كل ما يحصل عليه من «فلوس» واعتزاله الحياة جاء ردا على تفشى قيم «السطو» و«النفاق» و«الخسة» و«الوضاعة» فى الأوساط العلمية المفترض فيها أنها تقود المجتمع نحو الرقى والسلوك المحترم..
و«القليوبية» من المحافظات ذات الحضور الثقافى، فمنها الشاعر «رفعت سلام» أحد رموز جيل السبعينيات الشعرى، وغيره من المبدعين لكن إجمالا يمكن القول إن القليوبية «معمل أفكار»، منها ثلاثة من الضباط الأحرار، ومنها اثنان من مرشدى جماعة الإخوان المسلمين، ومنها «جمال حمدان» وكثيرون لا أتذكرهم الآن، أو ربما غابوا عن الذاكرة لنقص فى المعلومات لكن تظل «القليوبية» محافظة مبدعة، أهدرها قربها الجغرافى من «القاهرة» المحافظة المتوحشة التى التهمت «الجيزة» و«بنى سويف» ومازالت تتمدد فى الصحراء الشرقية والغربية وربما جاء يوم لاصقت فيه «القاهرة» البحيرة والإسكندرية!