بعض تجليات الله سبحانه وتعالي في سوره الكهف
فقد ميز الله بعض كلامه عن بعض بخصائص ووظائف وحث نبي الله - صلى الله عليه وسلم -
على سور وآيات مخصوصة ومن ذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - أن الفاتحة هي " أعظم سورة في القرآن " (1)، وأن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (تعدل ثلث القرآن) (2)، وأن(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (لم ير مثلهن قط) (3). وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) (4).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) (5)، وأن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي(6).
ومن هذه الكلمات التامات والسور المباركات سورة الكهف، وهى السورة التي ورد الخبر بمدحها وتبيان فضلها، فهي:
* إحدى خمس سور في القرآن الكريم تبدأ بالحمد لله(7).
* هي أوسط القرآن أجزاؤه وكلماته.
* قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين))8.
* روى مسلم عن أبى الدرداء - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال"وفى رواية: "من آخر سورة الكهف" (9)
فلأي شيء كان هذا الفضل؟ ولم كانت هذه المزية؟ ولماذا كانت عاصمة من فتنة الدجال؟
نقول وبالله التوفيق، إن سورة الكهف تحدثت في مجملها عن طائفتين من الناس:
الأولى هي الطائفة التي نظرت بالكلية إلى الأسباب مع ما في ذلك من قدح في التوحيد وطلب لزينه الحياة الدنيا، وهذه هي طائفة المشركين أعداء الدين.
والثانية عرفت هذه الأسباب ولم تنكرها وإنما ردتها إلى الله مسببها مع توكلها عليه - سبحانه - وانطراحها بين يديه بالكلية، بحيث تتضاءل عندهم الأسباب وتتلاشى بالنظر إلى مشيئته وقدرته، فعلم الله مثل هذا من هذه الطائفة فخرق لها الأسباب كلها "خرقاً ربانياً " في أربع آيات يتحدث بها العالمون والعجيب أن هذه القصص الأربع لم تتكرر في موضع آخر من كتاب الله بما يحفظ لهذه السورة تفردها وتميزها.
ويمكننا أن نوجز هذا الخرق الرباني في أربعة عناصر رئيسية:
* خرقٌ رباني في الزمان.
* وخرق في المكان.
* وخرق للعادة في الإنسان.
* وأما الخرق الرابع-فهو المهيمن على الثلاثة الأول وهو جماعها وأصلها-وهو الكشف الرباني لأستار القدر الأعلى.
أولاً: أصحاب الكهف وطي الزمـان
فهؤلاء هم فتية الكهف وقد آمنوا بربهم وأعلنوا البراءة مما سواه وألقوا الحرب والعداوة بينهم وبين ما اتخذ الناس من دونه: (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً) (10).
وقد استيقن لديهم أن القوم ماضون في غيهم وأن الباطل صار ديناً لهم لازماً لحياتهم والدفاع عنه هو دفاع عن مقدراتهم ودولتهم بكل عناصرها ومؤسساتها، وقد تملك زمام الأمور فيها عصابة من المجرمين، والفتية قد خرجوا عن المألوف بإيمانهم حتى تعطلت مصالحهم وأرزاقهم أو كادت، وأغلقت في وجوههم أبواب الدنيا ومنعوا الوظائف وأسباب الحياة، ولم يبق أمامهم إلا الاعتزال والفرار بالدين.
وربما ثقلت الجاهلية حينئذ على قلوب المؤمنين أو بغتتهم عاجلة الأسباب وربما تضخمت دولة الباطل وانتفشت حتى يظن الظان أنها لن تزول حينئذ تبرز قصة أصحاب الكهف لتكشف الوهم وتزيل الغبش وتحدد الحجم الحقيقي للقضية فالفتية (وهو لفظ لجمع تقليل رغم أنهم دون العشرة) (11) إلا أنهم هم الفئة المعتبرة بالنظر في كتاب الله والعرف الإيماني كذلك وهم يتساءلون كم تحتاج دولة الباطل حتى تنقضي وتزول؟!، مائة.. مائتين أم ثلاثمائة سنة؟!، فما هو إلا أن طوى الله لهم الزمن حتى صارت الثلاثمائة سنين وزيادتها في حسهم كأنها يوم أو بعض يوم هكذا عاش الظالمون ما عاشوا إلا أن دولة الظلم حتما ستنتهي وتبيد وفى غمضة عين يضع المؤمن جنبه وقد استفرغ الوسع وانقطعت به الأسباب متوسلاً الرحمة والرشد في علم الله المحيط فما يفيق إلا وقد تحقق وعد الله: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (12).
وعد الله بالبعث بعد الممات ووعدوه بالنصر والغلبة لعباده المؤمنين في هذه الدنيا: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (13).
ثانياً: صاحب الجنتين ودك المكان
وهذه قصة أخرى تضخمت فيها الدنيا وعظمت أسبابها في حس أصحابها وظنوا أن الله الذي بسطها ومدها لهم ليس بقادر على أن يقبضها ويطويها، فهذا رجل ضعيف يستقى قوة من غيره ويستعلى بها وقد شده الماء والطين وتقوى بالمال والبنين: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (14) بينما يقف فيها أهل الإيمان موقف الاستعلاء كالطود الشامخ لا تنال منه أنواء الفقر ولا عائزة الحاجة وقد تعلقوا بحبل الله المتين يتعبدون الله بالفاقة إليه التي أورثتهم الذلة له وقد علموا أنه مع الذلة تكون النصرة كما يتعبدونه أيضاً بتعجل بطشته بالظالمين وقطع دابرهم، ولهذا قال المؤمن: (فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا) (15) وعندئذ لابد أن تنخرم أسباب الباطل وتتهاوى تلكم الدعاوى.
ولأمر ما فصل القرآن الكريم في ذكر الجنتين وأفاض البيان بكل أبعاد المكان وعناصره حتى قال الرجل (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) (16) نعم إلى هذا الحد كبرت الدنيا فى أعين أصحابها حتى ظنوا أنها لن تزول! ثم كانت المفاجأة (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) (17) في درس آخر يلقنه الله للمؤمنين فكما طوى الزمان في قصة أصحاب الكهف هو الذي محق المكان هنا بصاحب الجنتين.
ثالثا: ذو القرنين وأسباب التمكين
وكما بدأت سورة الكهف بالاستضعاف والعزلة للفئة المؤمنة تنتهي بالقوة والتمكين وغلبة أمر الدين، فهذا حاكم مسلم قال الله فيه: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) (18) وقد أوتى من الأسباب العجيبة ما لا يعلمه إلا الله من العلم والقوة التي بها يسخر الدنيا ويقهر الأعداء ويبلغ المشارق والمغارب ويفهم عجمة القلوب والألسنة ويذيب الحديد ويضرب السدود، وباختصار فهو رجل غير عادى خارق القوى والملكات (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرً) (19) أي: (بما عنده من الخير والأسباب العظيمة)(20).
وبهذا تكتمل عناصر الكون الزمان والمكان والإنسان وبها يقوم عالم الشهادة شاخصاً متحركاً حركة الحياة والأحياء بينما يبقى عالم الغيب مكنوناً غامضاً لا يهتك ستره إلا القصة الرابعة والأخيرة.
رابعاً: موسى عليه السلام والخضر عليه السلام بين العالم المشهود والغيب المنشود:
وترتكز القصة في مجملها على عنصرين رئيسيين هما المال والبنين والذين سبق ذكرهما في نفس السورة وهما زينة الحياة الدنيا ويمكنك تخيل القصة بدون ذكر العبد الصالح وهو الخضر عليه السلام ، وأن تضع نفسك مكان موسى عليـ السلام ـه وتعيش الحياة كما هي فترى مساكين تعاب مركبهم وهى كل مالهم ولقمة عيشهم، وترى فيما يمر بك من أحداث الدنيا أبوين مؤمنين يموت صغيرهما وهو كل ما يرجون من هذه الحياة ويتكئون عليه فيها، وهذه مصائب في أعز ما يملك الناس المال والولد ربما ناحوا لها وقنطوا أو جزعوا وسخطوا وهم لا يدرون أن المنحة في طيات المحنة والبلية هي في حقيقتها عطية.
وترى فيما يرى السائر أيتام في قرية لئام لا يملكون إلا داراً حقيرة متهدمة الجدران إلا جداراً يقف شاهداً على خسة أهل القرية وشحهم.
وفجأة يظهر الخضر أمامك يجلى لك الحقائق باعتباره يمثل القدر الأعلى وباعتباره إنسانا مميزاً أيضا ليهتك لك أستار الغيب الذي أطلعه الله عليه وتتعجب من الفطرة النقية متمثلة في موسى - عليه السلام - وهو يستنكف المنكر وينكره فكيف تتلف الأملاك؟ وتقتل الأنفس البريئة؟ ولأي شئ يوضع المعروف في غير أهله؟.
وأمر المؤمن كله له خير والصلاح ينفع أهله في الدنيا والآخرة فتلف المال حماية له من أن يذهب به الظالم بالكلية، وموت الولد رحمة به من قدر الكفر الذي ينتظره ورحمة بوالديه من الشقاء به في الدارين وبقاء المال والولد كان ثمرة لصلاح الأب ومما خلفه الله به في أهله وماله.
وأخيــراً
بقى أن نجيب على السؤال الذي طرحناه أولاً، وهو لماذا كانت سورة الكهف عاصمة من فتنة الدجال عليه لعنة الله؟!.
ونجيب عليه والعلم عند الله:
بأن سورة الكهف قد بدأت بذكر أهل الكتاب وهم جل أتباع المسيح الدجال وهو من علامات الساعة - وربما كان في ذلك إشارة إلى تملكهم زمام العالم في آخر الزمان وختمت بالحديث عن التوحيد وذم الكفر الذي هم عليهم.
واشتملت السورة أيضا على معنى مشترك بين كل القصص المذكورة فيها، وهو معنى الخرق الرباني للعادة في الزمان والمكان والإنسان ثم في القدر الكوني كما قد تقدم وبذلك صارت السورة الكريمة - وبهذه الضدية كالرقية من الخرق الشيطاني الذي يمثله مسيح السوء الدجال في أعظم صوره، فأنى يثبت وأنى يفلح حينئذ؟!.
ومما يستأنس به أيضا في هذا المعنى أن زوال شخص المسيح الدجال نفسه يكون على يد مسيح الخير بن مريم - عليهما السلام - باعتباره خارقة بشرية ربانية كذلك منذ بدايته من غير أب ومعجزاته كالنفخ فى الطين بإذن الله وإبراء المعضلات والإنباء بالمغيبات وحتى رفعه من غير موت ثم عودته بعد ذلك.
وصدق ربنا - عز وجل - إذ يقول: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (21).
والله أعلم والحمد لله رب العالمين..
____________
(1) البخاري وأبو داود والنسائي.
(2) البخاري.
(3) مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
(4) البخاري و مسلم وأبو داود والترمذي.
(5) مسلم والترمذي.
(6) مسلم بنحوه.
(7) الفاتحة-الأنعام-الكهف-سبأ-فاطر.
(
صحيح الجامع (6351)
(9) مسلم وأبو داود والترمذي.
(10) الكهف: 14 15.
(11) تيسير الكريم الرحمن.
(12) الكهف: 21.
(13) الصافات: 171 173.
(14) الكهف: 34.
(15) الكهف: 40.
(16) الكهف: 35.
(17) الكهف: 42.
(18) الكهف: 84.
(19) الكهف:91.
(20) تيسير الكريم الرحمن.
(21) الأنبياء: 18.