الفصل الثاني
الخصائص الحضارية في قرطاجة
كان من القرطاجنيون كجدودهم الفينيقيين, على جانب عظيم من الحضارة, غير أنه لم يصل إلينا من آثار حضارتهم إلا أقل القليل لأن أعداءهم الرومان طمسوا على كل شيء يتصل بالقرطاجنيين ولم يبق من آثارهم إلا بعض آثار مدنهم في اسبانيا وشمال إفريقية, والمذكرة التي كتبها البحار القرطاجي حنون عن رحلته البحرية وكتاب في الفلاحة وبعض معلومات( ) قليلة عنهم في كتب المؤرخين اليونانيين ومن هذه الآثار الباقية نستطيع أن نفهم أن قرطاجنه كانت عظيم من الحضارة, وأن حضارتها كانت أرقى حضارة الرومان, وأن القرطاجنيين كالفينيقيين نشروا حضارتهم في العالم عن
طرق السلم والتجارة( ).
المبحث الأول
نظام الحكم
قد تحدث الفيلسوف أرسطاليس عن نظام الحكم في قرطاجنة فقال (إن لقرطاجنة دستوراً انفردت بكماله عن سائر الدول, ولها شرائع غاية في الحسن, ومن الدليل على ما وعته من الحكمة, أنها مع ما للأمة عندها من السلطان, لم نجدها قط بدلت( ) بشكل الحكم, ولا نشبت فيها فتنة) ثم يقول : أن القضاء عند القرطاجنيين أفضل منه عند اليونانيين, لأنهم لا يرضون له اغفال الناس, بل يولونه أحسنهم طريقة, وأحمدهم سيرة, ومن كلام هذا الفيلسوف العظيم, نفهم أن قرطاجنة كانت تتمتع بحكومة عادلة, وأنها كانت على جانب عظيم من الحضارة( ). لقد كان نظام الحكم في قرطاجنة أشبة بالجمهورية( ) يقوم على أربعة مؤسسات هي: الشوفيتيم وهما القاضيان اللذان ينتخبان سنوياً, ثم مجلس الشيوخ الذي كان يتكون من ثلاثمائة عضو ومجلس الدعامة ثم المحكمة العليا وكان عدد أعضائها مائة عضو, وباستثناء مجلس العامة كان الأغنياء يسيطرون على أجهزة الحكم سواء كان تجاراً أو إقطاعيين. وحتى قادة الجيش القرطاجي كانوا عادة من الأثرياء( ) وكان يحكم قرطاجنة في مبتدأ أمرها حاكم يلقب بـ(skn) وكان تابعاً لملك صور, ومن غير الواضح ماذا إذا كان لقرطاجة ملوكاً مستقلين (mlk) خلال القرن( ) السابع ق.م ولكن من الثابت أن دستور قرطاجة في القرن السادس ق.م كان دستوراً اوليجاركيا (يعتمد حكم الأقلية) وكان على رأس الدولة القرطاجية أحد القضاة ثم صاروا اثنين منهم يطلق عليهما (شيتم في الفينيقية SUFFETES في اللاتينية) كانا ينتخبان سنوياً على أساس النسب العريق والثروة( ). أما السلطة العسكرية فكان يتولاها قادة منتخبون بصورة منفصلة كما كان في قرطاجة مجلس شيوخ قرطاجي يتألف من بضعة مئات من الأعضاء مدى الحياة وكذلك كانت هناك هيئة مؤلفة من 104 من القضاة تتولى الإشراف والرقابة على تصرفات القادة العسكريين وغيرهم من كبار شاغلي المناصب هذا النظام الاوليجاركي القرطاجي حال دون انفراد أحد بالحكم أو استيلاء بعض القادة الطموحين على زمام السلطة ولم تكن الخدمة العسكرية في الجيش القرطاجي إجبارية بسبب قلة عدد السكان الذي لم يكن يسمح بقيام جيش كبير( )من مواطني قرطاجة لذا كان البديل هو اللجوء إلى جلب المرتزقة المأجورين من شعوب عديدة في غرب البحر المتوسط للخدمة في الجيش القرطاجي لسد النقص الناجم عن قلة المواطنين( ). وكانت ديانتهم الوثنية, وأكبر آلهتهم: بعل وكانت معاملةأهل قرطاجة للأمم المتوحشة التي كانت تسكن شواطئ إفريقية معاملة مبنية على الاحترام والصدق وحسن السياسة( ). وكان القرطاجينيون يبعثون إلى شواطئ البحار سفنهم مملوءة بالمؤن والرجال لاستكشاف الأراضي وتأسيس المدن وفي القرن السادس قبل الميلاد بعث مجلس الشيوخ القرطاجني إلى السواحل الإفريقية الربان: حنون, ليكشف تلك الشواطئ ويؤسس بعض المدن( ) وقد خرج في ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء, ومعهم ستون سفينة عظيمة لكل منها خمسون مجدافاً وقد كتب هذا الربان من كره رفعها إلى حكومته, ووصلت إلينا عن طريق ترجمتها باللغة اليونانية. وما يخص المغرب من هذه المذكرة ما يلي (بعد أن أجرنا أصنام هرقل بيومين, أنشأنا أول المدن, وسميناها (ثميترية) وهي مطلة على سهول رحبة, ثم أقلعنا منها نحو الشرق إلى (سلو) وقد بسقت فوق أرضه أشجار غضبه, فبنينا هناك معبداً للإله (بوصيدن), ثم عكفنا إلى الشرق مسيرة نصف يوم, فإذا بنا على مست بحيرة قريبة من الشاطئ تكاتف عليها القصب ورعت حولها الفيلة( ) وعلى ميسرة يوم أنشأنا عدة قرى قريبة من الساحل سميناها: حصن قريكون – غيته – عكرة – ملبطة – ارنبي. ومن ثم انتهت بنا السفن إلى: لكسوس*( ) وعلى مشارعة قبيلة: لكسنه, وقد سرحت مواشيها على ضفتيه, وهي قبيلة عظيمة مضيافة, أخيناها وأقمنا عندها أياماً) ثم يقول: (وقد استصحبنا معنا تراجم من قبائل لكسته, وانطلقنا بمراكبنا نحو الجنوب) وهكذا صار يقصى علينا ما شاهده في شواطئ إفريقية إلى أن وصل إلى غينيا( ). ومن هذا التقرير يظهر أن أهل قرطاجنة وسكان شواطئ المغرب كانوا أصدقاء ويتفاهمون مع بعضهم. وأنهم بنوا المغاربة كثيراً من المعابد والقرى, وأن الفيل كان موجوداً في المغرب في تلك العصور, وأن أهل قرطاجنه استوطنوا المغرب الأقصى في تلك المدن التي ذكرها حنون في رحلته, والتي كانت موجودة بين الصورة وأغادير( ) ومن آثار أهل قرطاجنة في المغرب من المدن. وهي التي بقيت من بين أكثر من ثلاثمائة مدينة انقرضت كلها: تينجيس: طنجة, لكسوس: مدينة قرب العرائش انقرضت, روسادير: مليلة, وكان العرب يسمونها: مليلة جدير( ).
المبحث الثاني
الحياة الاقتصادية والدينية
إن الحياة الاقتصادية في قرطاجة ومواردها الوافرة لعبت بشكل كبير في حضارة قرطاجة وذلك لأن الحركة التجارية لعبت في اقتصاديات قرطاجة دوراً بارزاً في إزدهار هذه المدينة كلها كا تؤيد ذلك المصادر التي خلفتها لنا العصور القديمة( ). غير أن قرطاجة لم تعرف يوماً صناعة استبدت جودتها بالإذهان فقد استطاعت أن تؤمن لنفسها الخامات التي كانت بحاجة ماسة إليها, أما لقرب تناولها أو النقل القوافل البرية والأساطيل البحرية( ) من ذلك مثلاً: صياغ الارجوان, والنحاس, والقصدير, وغير ذلك من المعادن الثمينة وريش النعام وبيضة, والعاج, والحجارة الكريمة وخشب الأرز, خلاف ذلك, وهي مواد وخامات لم يبدلنا إن ضاع قرطاجه تمكنوا فيما ندر, من صنع حاجيات ثمينة, ذات ذوق رفيع يستبد بأذواق الأثرياء وتغريهم باقتنائها, بالرغم من ارتفاع ثمنها وعلوا أسعارها( ) فلم يبلغنا يوماً أنهم تواصلوا إلى خلق أو استنباط طراز فني معين فالكماليات الغالية الثمن لم تشبع يوماً رغبات الاستوقراطية المحلية والاصدرت قرطاجة شيئاً يذكر منها. فقد قصرت قرطاجة, في هذا المضمار, عن بلوغ المستوى الفني للمهارات الصناعية التي سجلتها المدن الفينيقية في شرقي البحر المتوسط وعرفت, بالرغم من المنافسة الشديدة التي تعرضت لها, أن تحافظ عليه خلال الأجيال القديمة المتطاولة فمن بين هذه المصنوعات التي أنتجتها, عرفت صناعة السجاد وبعض الوسائل أن تستأثر بذوق الإغريق فيجدون في أثرها( ) وعلى عكس هذا تماماً, توفرت قرطاجة على صنع الحاجيات العادية ذات الاستعمال الدائم وانتجتها بكثرة, وهي صناعة راجت سوقها واستبدت مصنوعاتها في عهد متأخر من تاريخ هذه المدينة, مع أنها كانت تزخر بما تستورده من هذه المنوعات, من بلدان المتوسط الشرقي: من فينيقيا, وبلاد اليونان, ومن مصر التي كانت تصدر تعاوين الخنانس المقدسة( ).
وأخذ بالتالي هذه المتوردات تنقص ويتدنى معدلها كما تشهد على ذلك مخلفات القبول التي عثر عليها المنقبون والتي تنطق عالياً بقيام صناعة وطنية ناشطة, متنوعة, منذ القرن السادس ق.م, إلا أنها صناعة مقلدة في كثير من إنتاجها, تقتبس نماذجها وطرق صنعها, وطراز زخرفها من الخارج, إذ أن استيراد هذه الحاجيات لم ينقطع حبله قط, باستثناء الحاجيات المستوردة من وادي النيل, التي استبدلت وحل محلها مصنوعات اتروريا وكمبانيا( ) ومن الطبيعي أن تكون قرطاجة نشطت إلى تصدير منتوجاتها الصناعية بأسعار رخيصة, إذ أننا نرى نماذج كثيرة من هذه المصنوعات في عدد كبير من الأقطار الواقعة حول حوض البحر المتوسط الغربي, كالفخار والخزف والزجاج. وحري بالملاحظة أن السواد الأعظم من مستهلكي المصنوعات القرطاجية وزبائنها, كانوا سكان الأقطار والبلدان الواقعة على مقربة من شواطئ البحر, وهم على الغالب من رعاياها وحلفائها والموالين لها( ) أما انتشار هذه المصونات وتغلغل استعمالها في الداخل, بين الأقوام المتوحشة, فكان يجري على نطاق ضيق( ).
كذلك لم تكن الصناعة والحالة هذه لتدر على قرطاجة أرباحاً طائلة فالدخل الكبير, جاءها ولاشك, من تجارتها الواسعة. فقد كانت سوقاً كبيراً لخزن البضائع وتنفيقها بنشاط في الأقطار الواقعة حول حوض البحر المتوسط( ) كما أن التجارة وحركتها الناشطة لم تكن وحدها سر ثروة قرطاجة وغناها, هذه الثروة التي صادفت في جمعها أزمات وصعوبات حادة, كما يستدل ذلك من الآثار التي عثر عليها في بعض القبور, خلال القرب الخامس, مثلاً وإن كنا لا نستطيع أن نتبين بوضوح طبيعتها وماهيتها لقلة المصادر لدينا. ومع ذلك فالانطباع العام الغالب هو انطباع ازدهار كلي.
فإلى جانب الموارد الطائلة التي كانت التجارة تدرها عليها, هناك مناجم الفضة في اسبانيا التي تمكنت قرطاجة من استهلاكها واستثارها بعد الانتصارات الحربية التي سجلها القادة العسكريون في تلك البلاد( ), إذا عمدوا في البدء للحصول عليها والاستثمار بها عن طريق مقايضة منوعاتها مع سكان البلاد.
وإلى هذا يجب أن نضيف أيضاً رسوم الضرائب التي كانت تجبيها بقسوة لا تعرف لا تعرف الشفقة من البلدان والشعوب الواقعة في مدارها وتحت رعايتها( ).
الزراعة:
لقد عرف القرطاجيون الذين كانوا بحارة جريئين وتجاراً ما هرين, أن يبلغوا مكاناً مرموقاً بين الشعوب التي نهضت بمرافق الزراعة إلى الاوج في العالم القديم. يجب ألا يغرب عن البال قط كيف أن الفينيقيين اقبلوا على استثمار خيرات الأرض الواقعة( ) إلى ما وراء البلاد التي كانوا يقطونها. فكيف بذر أريهم القرطاجيين في إفريقيا حيث خصب التربة كان مضرباً للمثل عند الأقدمن, بجودة محاصيلها ووفرة خيراتها, مما حدا بالقدامى من الكتبة والمؤرخين إلى التمثل في هذا المجال يذكر أرقام خيالية في معرض حديثهم عن خيرات الأرض ووفرة المحصول: فقد بلغ من خصب التربة, في مقاطعة طرابلس الغرب, كما يؤكد هيرودوتس, 300 في الواحد( ).
وخير ما تتمثل به الزراعة عن البونيقيين غرس الأشجار المثمرة, كالدوالي وشجر الزيتون والتين والرمان وغير ذلك. وعنهم أخذ الرومان, في القرن الثاني ق.م, شجرة التين الإفريقي كما نقلوا معها شجرة الرمان وسموها: (التفاح البونيقي). وعندما كان كاطون الأب يعرض على أنظار زملائه من أعضاء مجلس الشيوخ أكواز التين الطازجة التي نقلها معه من أفريقيا الشمالية, كان يحرص أن يشدد أما مهم بالأكثر, على طراجة هذه الفاكهة واطراوتها, وموايً بذلك عن الخطر المداهم الذي كان يتهدد روما في استبقائها قرطاجة بعد معركة (زاما) الفاصلة( ).
ومن الجائز طبعاً, التفكير بأنه اختار, عن سابق قصد وتصميم, هذه الثمار ليعرض أمامهم بهذه المدينة التي كانت خصماً عنيداً وعدواً لدوداً لوطنه, تشديداً منه على هذه المنافسة بين المدينتين المتجلية, على أتمها, بين زراعة الأشجار المثمرة المزدهرة في قرطاجة وبين ما كانت عليه من وضع متواضع في إيطاليا, دعوة منه لتشجيعها( ).
قامت هذه الزراعة عندهم على أسس ومناهج علمية مدروسة ومتطورة, إذ كان لقرطاجة مهندسوها وخبراتها الزراعيون الذين عرفوا أن يفيدوا إلى حد بعيد, من كتب الزراعة والفلاحة التي وضعها من سبقهم من الكتبة الهلينيين( ) ولعل أشهر هؤلاء المهندسين وأخلدهم أسماً وذكر القائل (ماغون) الذي وضع موسوعة زراعية بلغ من ذيوع شهرتها ما حمل مجلس الشيوخ الروماني على اتخاذ قرار بنقلها إلى اللاتينية, كما تم نقلها فيما نعرف إلى اليونانية, وتولاها كثيرون بالشرح والتعليق والتبسيط. وبقيت هذه الموسوعة طائرة الشهرة طوال العهد القديم, إذ كثيراً ما رجع إليها علماء الزراعة من الرومان( ) واغترف منها مهندسوهم, وعولوا عليها في تنقيباتهم, أمثال (كاطون) (بليني) ويستدل من هذه النقول أن القرطاجين كانوا أقل اهتماماً بالجنوب منهم بالأشجار المثمرة والخضروات والبقول وتربية الماشة, والنحالة وغيرها من المرافق الزراعية التي بلغت من العناية والإتقان ما در عليهم الأرباح الطائلة( ).
ديانة القرطاجيين:
إن الديانة البونيقية لم تكن مغلقة عل نفسها منكفئة على ذاتها, منفرة للنفوس بتصلبها. فقد جاء بها معمرون فينيقيون, وبقيت في جميع أدوارها محافظة على فينقينها في جوهرها وفي كل مظاهرها الكبرى. وديانة المشارقة من الفينيقيين برهنت, في أكثر من موقف لها, عن استعدادها لاقتباس مؤثرات أجنبية تعرف كيف تتمثلها( ). فقد أخذت من مصر, وهكذا سار القرطاجيون ونهجوا على منوالها. فقد نقلت قرطاجة عبادة آلهة جبل إيركس في غرب صقلية ورمزت إليها بإحدى آلهاتها, بينما رمز إليه الإغريق بافروديت. كذلك اقتبست أيضاً آلهة قبائل الإفريقيين, تقرباً منها واستمالة لها وتفادياً لغضبها أو لنقمتها. في بقاع سيطر عليها القرطاجيون من المتعذر أن نتبين الجديد من هذه العناصر المقتبسة لجهلنا التام ما كانت علي ديانة هذه الأقوام الإفريقية( ) وسواءً أكانت هذه الاقتباسات الدينية ثابتة فعلاً أو مسلماً بها, مقدرة تقديراً, يجب أن نحسب حسابً لما طرأ على هذه العقائد من تطور وتبدل خلال حقبة من الدهر نيفت على ستة قرون( ).
أما جوهر هذه الآلهة أو طبيعة الإيمان بها, والنظر في مناسك الطقوس الموقوفة عليها, فكلها مباحث استطال حولها النقاش وسيستمر الجدل حولها طويلاً, قبل أن نأتينا جهية بالخبر اليقين. فالمسميات والأسماء لا تنقصنا, لا بل هي مركبة لكثرتها بحيث نرى أنفسنا ملزمين للأخذ بأسماء مختلفة لبعض الآلهة والآلهات( ) فلنقتصر منها هنا على الكبار, تفادياً للسأم وهرباً من الإرهاق والإرهاص. وأول هذه الأرباب, الإله أشمون الذي يسميه الإغريق: اسكلابيوس دون أن ندرك بالفعل الأسباب الموجبة لهذه التسمية. والمعروف لدى الجميع أن معبده كان قائماً على رأس جبل بيرسا. ثم الإله بعل همون, أقوى آلهتهم وهو الموازي للإله إيل أو بعل, عند الفينيقيين وهو رب الأرباب الذي يشبه في الربوبه الإله زوس عند الإغريق, وجوبيتير عند الرومان, والذي استمرت عبادته باسم زحل في إفريقيا( ) ويأتي بعد هذه الأسماء, الآلهة تانيت المعروفة باسم بينيه بعل, أي وجه بعل, ونحن نجهل تماماً الوجه الحقيقي لهذه التسمية, هذه الزوجة التي كثيراً ما تظهر بمعية بعل همون في الاحتفالات الرسمية, من تأتي قبله ذكراً, وكثيراً ما يقتصر عليها وحدها في الصلوات والتضرعات وبذلك تطل علينا كأنها الآلهة الأكثر شعبية.
أما الرومان فقد تمثلوا باسم جونون, شفيعة قرطاجة التقليدية وحاميتها, كما عرفت في عهد الإمبراطورية الرومانية باسم تشلستيس, أي السماوية( ).
أما الطقوس الدينية ومناسكها المختلفة في قرطاجة:
فقد كان القرطاجيون من التقوى والتمسك بأهداب الدين, فقد صوروهم, ومع ذلك, في التاريخ القديم بأنهم لم يتورعوا من خداع الآلهة كما لم يتعففوا عن خداع الناس وتضليلهم. كذلك غالي كتبة التاريخ القديم في تصويرهم لهم عبيداً أذلاء يتسكعون لهم في الملمات الشديدة والأزمات الخانقة. فهم لا يختلفون في الحوادث المروية المتعارفة عن سواهم من الشعوب الأخرى, وكان كبار الكهنة والكاهنات يؤخذون عادة, من بين الأسر الشريفة, كما كانت تقام الاحتفالات الدينية الرسمية تحت راعية الدولة وأشرفها. فقد أظهرت مناسبات عديدة( ). والذي أدهش الأقدمين وحيرهم هو استمرار بعض الطقوس الدينية عند القرطاجيين التي رأت فيها النخبة من الإغريق والرومان, عادة متأخرة, مختلفة, وحشية الطابع فبفضل ديانة الإغريق, أخذ القرطاجيون بالتشبيه أو تجسيم الصفاتية. كما ركنوا في مناسكهم, إلى الرموز التشابيه المجازية, ووروا إليها بعبادة بعض الحجارة التي الهوها وكنوا عنها ببعض الحركات والشارات( ) فمن عاداتهم المتهجنة: معاشرة البغايا التي زففن للهيكل. ومن بين الطقوس التي كانوا يستسلمون إليها بوحشية تتقزز النفوس لمرآها وتشمئز منها لما يرافقها من موبقات: هذه الذبائح البشرية, حتى أن بعض الملوك تدخلوا لحمل القرطاجيين على الإقلاع عن هذه الدعاة الوحشية, كالملك داريوس الفارسي, والطاغية السيراقوزي جيلون وغيرهما. كل هذه المساعي ذهبت عبثاً وبقيت الدعاة وسارية بينهم إلى عهد الإمبراطورية الرومانية المتأخر. يقيمونها خفية ويقبلون عليها تحت جناح الظلام( ).
وكان القرطاجيون يقدمون, في كل سنة, أحد أبنائهم من الأسر الشريفة, ذبيحة للآلة ملقرت, شفيع مدينة صور الكبير, وحاميها. وكانت نفوس الأقدمين تنقبض هلعاً, كما تنقبض نفوس المحدثين اليوم من تقديم أحد أطفال ذبيحة للإله بعل همون, وهي ذبيحة لم يكن عنها بل في نظر المسئولين الذين كثيراً ما كانوا يحاولون تجنبها وتفاديها بالتي هي أحسن, ولا ينفذونها إلا تحت( ) ضغط الدولة والرأي العام, في حالات الخطر الشديد المهدد السلامة البلاد. (فقد كان هناك, كما يقول ذيوذورس الصقلي, تمثال الإله ملقرت من الشبهان وقد بسط بداية بانحناء نحو الأرض بحيث ينحدر الوالد الذبيح رويداً ليهوي في اتون منقده يرتفع لهيب النار عالياً) فإذا كانت هذه الذبيحة البشرية تقتصر على تقديم البكر من الولد كما نحب أن نعتقد, فقد كانت ترمز عندهم لتكريس بواكير غلال الأرض( ).
المبحث الثالث
الجوانب الثقافية بين قرطاجة واليونان
أولاً: تأثر مدينة قرطاجة بالحضارة الهيلينه وآدابها:
لم يرع التاريخ القديم لقرطاجة في هذا المجال, حرمة فاسترسل الكتبة والمؤرخون, ومعظمهم إغريق ورومان, في النهش والثلب. فرموا القرطاجيين بكل فرية, وقذفوهم بأبشع النعوت والأوصاف. فهم كما صوروهم لنا, قراصنة يحفرون بالعهد المقطوع, تياهون, فياشون, صلف في سيطرتهم, أخساء في دناءتهم, قساة القلوب, خطفة, مسترسلون في السؤ متمرغون في الدناءات( ) تلك هي بعض قسمات الصورة التي تركوها لنا عنهم. من السهل كما هو مضيعة للوقت قتله في السفاسف, أن نتلهى بكشف ما فيها من تجسيم وتضخيم إرادته موجدة بعيضة, وحقد حقين سلموا لهم ببعض الذكاء دون أن يعترفوا لهم, من جهة أخرى, بأي نزعة نحو أعمال الفكر واللذاذات الأدبية. من الصعب لدينا الرأي وانقطاع المصادر الأصلية. فمما كتبه القرطاجيون بلغتهم الأم وهي اللهجة الفينيقية المحكية في شمال إفريقيا, لم يبق سوى بعض نتف مجملها في غاية الاقتضاب والإيجاز, لا تمت إلى الأدب بصلة( ). والأثر الأدبي البونيقي الوحيد الذي لا يلفه الغموض هو دائرة المعارف الزراعية التي وضعها ماغون.
وإلى هذا, فإذا استسلمنا للصمت الذي تلتزمه هنا المصادر الأخرى, تبدى لنا أنه لم يخرج من صفوف القرطاجيين أي مفكر أو مؤرخ, أو شاعر, أو عالم واحد. فإذا أتفق صدفه ورأى تبرانس النور على أرض بونيقيه, فقد وجد منذ حداثته الباكرة في الأسر, واقتب عبداً إلى روما واستعمل اللاتينية في كتاباته. ومع هذا, وإلى هذا كله يحدثنا التاريخ عن قيام مكتبات في قرطاجه, أمرت روما بعد أن تمت لها الغلبة عليها وظفرت بها, بتوزيعها بدءاً على ملوك البربر وأمرائهم( ). فقد جون هذه المكتبات بالطبع مؤلفات إغريقية, ولكن إلى أي حد؟ وعلى أي قدر؟ وماذا كانت نسبتها فيها؟ فالإغريق شغلوا أنفسهم بقرطاجة, فحلت بسيطرتها وسيادتها على الحوض الغربي من البحر المتوسط, من تفكيرهم في الصميم. فهاهو ارسطو يغني نفسه بدرس مؤسساتها والنظم السياسية والاجتماعية التي انتظمت حياة هذه المدينة. وقام بين الإغريق مؤرخون ارخوا, باستفاضة, للحروب البونيقية الأولى والثانية, بما هو في مصلحة قرطاجة وتبين فضلها كثيرون بين القرطاجيين من جود واللغة اليونانية واتخذوا منها يداً لهم وأداة طيعة أحسنوا استعمالها في أعمالهم التجارية الواسعة التي رحبت رحابة البحر المتوسط ومشارفه في الغرب والشرق, واتخذوا من هذه اللغة: لغة كتابة وتعبير وأداة تفاهم, لدرجة حملت السلطات القرطاجية المسؤولة, ولكن دونما جدوى قط, على تحريم استعمال اليونانية على رعاياها, أثر حادث خيانة وطنية لا مجال هنا لتفصيله( ) وقد مر معنا كيف أنه نشأت حوادث زواج واصهار بينهم وبين الإغريق. فقد أظهر الناس إعجابهم في القرن الرابع ق.م, من قوة بلاغة وفصاحة أحد سراة القرطاجيين وسير اقوزة, كما أن هانيبال درس اليونانية, وهو بعد في اسبانيا, على معلم اسبرطي وضع فيما بعد, تاريخاً مفصلاً لتلميذه. والطبقات الثرية في قرطاجة وقعت تحت تأثير الهلينية التي عرفت, قبل الاسكندر, إن تغزو المدن الفينيقية وتتغلغل في ثناياها( ).
ثانياً: تأثر قرطاجة بالفن الهيليني:
إن ما نزل بقرطاجة من خراب مدروس, ومن دمار مدبر لها, مخطط يزكي ما هي عليه معلوماتنا من فقر مدفع حيال الفن البونيقي.
ازدانت المدينة ولاشك, وبالأبنية الضخمة, كما ازدانت شوارعها وساحاتها ومبادينها بنصب الآلهة. فلم يبق من هذا كله سوى نتف مبعثرة وحطام شتيت من عالم الفن المعماري عندهم. ولم يسلم من عملية الهدم الجندري سوى أقبية المدافن والقبور, وعمق بعضها 20متراً في الأرض وهو القسم الأهم, ثم أخذوا يضيفون إليها, بعد ذلك بكثير, إنشاءات علوية بشكل أضرحة وأرهام. وهكذا لا نستطيع أن نتبين ما كان عليه القرطاجيون من الذوق الغني إلا من خلال النقائش والخزفيات والحلي التي عثر عليها المنقبون بين القبور( ) غير أن دراسة هذه الحاجيات لا تضعنا وجهاً لوجه, مع فن يمكن وصفه بفن بونيقي أصيل, إذ أن هذه المكتشفات إما أن تكون خلواً من كل أهمية فنية أو أنها تعكس, على الغالب, التقليد المباشر للمصنوعات الأجنبية, إن لم تعكس يد ضاع اغراب تأثروا إلى حد بعيد, بالشرف المصري أو الفينيقي الذي اقتبس, هو الآخر من مصر, أكثر من طريقة أو طابع وراح يقلدهما في الحين أن الفن اليوناني كان إذ ذاك المؤثر الفني الأكبر في الشرق( ) والمصنوعات الحرية بالذكر هنا هي لعمري من جهة, هذه الأقنعة المتخذة من الخزف التي تصور لنا أناساً في كثرتهم, ومن جهة أخرى أغطية نواويس عديدة فرشت بالنقوش المحفورة, وبالرسوم المتنوعة, عثر عليها في مقبرة القديسة مونيقا, والحال لهذه الأقنعة مثيلات كثيرة في هذه الحقبة من الفن الإغريقي المشرقي القديم. أما النقائش فأشهرها النقوش الهيلينية التقليد, وهي عبارة عن تماثيل أشخاص منتصبي القامه والقوام, نحتها ازميل النحات كأنها مضطجعة أو مستلقية على الظهر, بينما يبرز كاهنان يرسمان حركة سجود, وامرأة صبية لها وجه صبوح رصين كأنها الآلهة تانيت, ملتحفة حتى الخصر, بجناحي عصفور, وممسكة بإحدى يديها حمامة وبالأخرى مجموة بخور( ) فلا يمكن أن نتردد في الحكم أمام مرأى هذه الصورة: فالرخام يوناني الأصل, ويونانية كذلك معالم الصراز والقسمات, وإغرايق النحاتون.
فقد اقتصروا على رسم مواقف وعادات ورموز الديانة البونيقية, سيان لديهم أن يكون النحت ثم في داخل البلاد أو جرى بعيداً عنها, مع العلم أنه كان قرطاجه جالية إغريقية بينها ولاشك, فنانون محترفون.
وقد اكتشفوا عن قاعدة نصب في مدينة افسى, في ايونيا, على توقيع نحات ينتسب إلى (القرطاجيين) أما اسمه فيوناني الجرس يدعى (بويثوس) وكذلك أبوه, إذ أنه يدعى (ابولوذوروس)( ). إن تطبع قرطاجة بالطابع الهيليني يبرز في مجال الفن أكثر منه في مجالي الفكر والأدب. فالقائد الروماني شيبيوا ميليان بادر, عقب فتحه القرطاجه عام 146ق.م, إلى إعادة الآثار الفنية الإغريقية التي سلبها القرطاجيون خلال حروبهم مع المدن اليونانية في صقلية( ).
كذلك حمل معه إلى روما عدداً كبيراً من التماثيل والأنصاب التي كانت تزين المدينة, ولم يكن ليعني نفسه بإعادتها إلى أصحابها, وهو العليم الخبير بمآثر الإغريق الفنية, لو لم تكن هيلينية الطابع والصنع اقتناها القرطاجيون خلال اتصالاتهم بصقلية والشرق الايجي الذي كان يخضع, إذا ذاك, الملوك مقدونيين. أما عملية هلينة المدن الفينيقية فقد كانت قطعت إذ ذلك, أشواطاً بعيدة واستبد الذوق الإغريقي في النفوس لدرجة يصعب علينا أن نجد أمثلة أوقع في النفس وأفعل فيها, على قوة إغراء الحضارة الإغرايقية وفرض ذوقها الفني الرفيع على هؤلاء الأقوام الأسيويين, بينما يقف أبناء عمومتهم, في الغرب, من الإغريق, موقف المنافسين الأشداء( )