السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أيها المسلم الحبيب.. قل لي بربك -لو سألناك- أتعلم ما هو حال المقبور الذي هو عليه الآن في قبره؟ هل تستطيع أن تنفذ من خلال قبره، فتقول لنا أهو في الجنة أم في النار؟ أتراه الآن متنعماً في قبره أم تراه معذباً في قبره؟
فأن قلت: بل أراه في الجنة وما أراه إلا منعماً.
لقلنا لك: من الذي قال لك عن حاله الذي هو عليه في قبره, أفتح لك قبره فرأيت حاله أم فتح لغيرنا فنقلوا لنا ما شاهدوه من حاله؟
لو سألناك أيها الحبيب وقلنا لك: -قل لي بربك- أعبد أنت أم رب؟ قد تعجب من هذا السؤال, وتقول على الفور: بل أنا عبد. لقلنا لك: لماذا تطغى على سلطان الرب؟ لعلك تقول: ومن ذا الذي يجرؤ أن يتعدى حدوده مع ربه أو يتجرأ على سلطانه، فوالله إني لأحب ربي وأجله وأعظمه.
قلنا لك: مهلاً أيها المسلم.. مهلاً أيها الحبيب المحب لربه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-, فإليك أيها الحبيب نهدي لك هذه الصور التي تبين لك حدود العبد، وكيف أنه ليس لأحد الحق في أن يتدخل في سلطان الرب، حتى لو كان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- عند ربه؟
فمما لاشك فيه لدينا ولديك في أن أكرم خلق الله عند ربه هو نبينا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فنحن لا نختلف نحن ولا أنت في ذلك، بل ولا يختلف معنا في ذلك أي مسلم أو مسلمة.
فنقول لك أيها الحبيب: نحن نريد منك أن تنظر إلى الآيات التي أنزلت عتاباً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أتدري فيما عاتب الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟
فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر قال: (اللهم العن فلانا و فلانا، اللهم العن الحارث بن هشام, اللهم العن سهيل بن عمرو, اللهم العن صفوان ابن أمية).
فنزلت الآية: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)(آل عمران:128). فتيب عليهم كلهم.
وهذا أيضا أنس بن مالك -رضي الله عنه- يذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم -عز و جل- فأنزل الله -تعالى-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).
أعقلت أيها الحبيب سبب نزول هذه الآية؟! فلما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على هؤلاء النفر باللعنة، ولما دعا على هؤلاء الذين ألحقوا به الأذى حتى أصيب بهذه الجراحات البالغة نزلت الآيات، أن ليس لك تدخل فيمن يكتب الله -تعالى- له الهداية، ومن يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله -تعالى-، فالهداية والإضلال بيد الله وحده ليس لغيره -سبحانه- فيها نصيب حتى لو كنت أنت يا محمد.
وهذا من الرب -تعالى- لكي نتعلم أن العبد عبد والرب رب، ومهما كانت منزلة هذا العبد فلا ينبغي أن يتعدى حدوده، ويتدخل في سلطان الرب -سبحانه-.
وانظر كذلك أيها الحبيب إلى عتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما توفي صبي فقالت طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار,فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً).
وكذلك إلى عتابه -صلى الله عليه وسلم- لهذه المرأة (أم العلاء), فتقول أم العلاء -رضي الله عنها- أن عثمان بن مظعون طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، قالت أم العلاء: فاشتكى عثمان عندنا فمرضته حتى توفى وجعلناه في أثوابه, فدخل علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وما يدريك أن الله أكرمه؟ قالت: قلت لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فمن؟ قال: (أما هو فقد جاءه والله اليقين والله إني لأرجو له الخير, وما أدري والله -وأنا رسول الله- ما يفعل بي) قالت والله لا أزكي أحداً بعده.
فتخيل أيها الحبيب قول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أكرم خلق الله -تعالى- (والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله -وأنا رسول الله- ما يفعل بي).
أتستطيع بعد ذلك -ونحن لسنا بأنبياء، ولا يتنزل علينا الوحي، أن نحكم لإنسان بالجنة, إلا لمن شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم-, فو الله ما شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد بالجنة إلا بوحي من الله -تعالى-.
بل انظر أيها الحبيب إلى قول حبيبنا وحبيبك محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى لا تغتر بظاهر عمل الإنسان, فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار, وان الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس و هو من أهل الجنة) (البخاري كتاب الجهاد والسير (2898).
بل انظر أيها الحبيب إلى هذه الرواية القاصمة التي ألجمتنا عن الكلام, فقد قال حبيبنا وحبيبك محمد -صلى الله عليه وسلم-: (سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله) قالوا:يا رسول الله, ولا أنت؟ قال: (ولا أنا, إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) (مسلم).
فهل لنا أيها الحبيب بعد ذلك أن نحكم لأحد بالجنة، حتى لو رأيناه صائماً، حتى ولو رأيناه لم يرفع رأسه من السجود لربه.
بل نقول: إن أمره إلى الله -تعالى- فنحن ما أطلعنا إلا على ظاهره, ولكن الله وحده هو الموكل بالسرائر وبواطن الأمور.
بل نهمس في أذنيك أيها الحبيب ونقول لك: أتدري من هم أول ثلاثة تسعر بهم النيران، لعلك لا تصدق بل نخش عليك ألا تصدق، ولكن حسبك أن هذا والله هو كلام نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-, فقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: (أول ثلاثة تسعر نهم النار: عالم ومتصدق وشهيد فيؤتى بهذا العالم فيعرفه نعمه فيعرفها، فقال: ماذا عملت فيها؟ يقول: علمت العلم وقرأت فيك القرآن. فيقال: كذبت، بل ليقال قارئ وعالم وقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجهه في النار..)، وكذلك يكون الحال بالنسبة لهذا المتصدق والشهيد.
فكما ترى أيها الحبيب، إن أعمالهم الظاهرة هي أعمال صالحة، بل لقد أتوا بأرقى وأرفع الأعمال الصالحة فيما نرى، لو حكمنا على ظواهرهم، لقلنا: إن لم يكونوا هؤلاء من أهل الجنة فمن يكون إذاً؟! ولكن كما سمعت أنهم من أهل النار، بل هم أول من يسعر به النار، وما السبب في ذلك؟
هو لأمر لا اطلاع لنا عليه، ولا سبيل لاطلاع أحد عليه، ألا وهو باطن هذا الإنسان، وهذا من شأن الله وحده، فنحن نرى ظواهر هذه الأعمال، والله -تعالى- وحده هو المطلع على سرائرهم وبواطنهم، فلما كان مقصدهم الذكر عند الناس، فكان عقابهم في الآخرة أن يكونوا من أصحاب السعير، بل أول من تسعر بهم جهنم.
أعقلت ذلك أيها الحبيب، فما أنت قائل بعد ذلك؟
أترى أن هناك من أعطاه الله ومنحه السلطان ليحكم على الناس هذا في الجنة وهذا في النار، أم أن هذا من خصائص الله -سبحانه- دون سواه؟
قال الله -تعالى-: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(البقرة: 229).
فنقول لك أيها الحبيب: فمن قال لك إن فلاناً ولي من أولياء الله الصالحين؟ أهو بوحي من السماء نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبلغنا إياه؟
فإن لم يكن أيها الحبيب فمن أين جاءوا بهذا القول الذي يتردد على السنة الناس: فلان ولي وفلان ولي؟
قد تقول أيها الحبيب: لقد نشأنا ووجدنا الآباء على ذلك الأمر وكذلك الأجداد، فلقد أبصرنا الآباء يفعلون فنحن نفعل كما كانوا يفعلون، فلقد رأينا الآباء منذ الصغر يصطحبوننا إلى هذه الأماكن يتبركون بهذا الولي.
ولعلك أيها الحبيب تتساءل وتقول: فمن أين جاءوا بذلك الأمر. ولعلك يجول بخاطرك وأنت تنظر إلى هذه الألوف المؤلفة الذين جاءوا من أماكن بعيدة ومتعددة: أكل هؤلاء لم يرد بخاطرهم أن يقفوا ولو مرة واحدة مع هذا الأمر؟
عندها نقول لك أيها الحبيب: قف مع نفسك واسترجع عند ذلك ما قاله الله -تعالى- عن الأمم السابقة وسبب ضلالهم وما كان ذلك إلا باتباعهم للعادات الموروثة عن الآباء، دون الوقوف على صحتها.
بل فلتردد أيها الحبيب وتقول: الله أكبر، إنها والله السنن التي قال عنها نبينا وحبيبنا ومعلمنا ومصطفى الله من خلقه: (لتتبعن سنن من كان من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه؟!).
فإن قلنا لك عند ذلك أيها الحبيب: فما هو سبيلنا لكي نتعرف على ديننا وشرعنا؟ أيكون ذلك من خلال النبي -صلى الله عليه وسلم- أم من خلال الآباء، فإن قال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- قولاً، وقال الآباء عكس ما قال، أو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلاً وفعل الآباء عكس ما فعل، فمن عند ذلك تتبع؟
ما نظنك إلا أنك ستتبع سبيل حبيبك الذي أنار الله لنا الطريق به، فكيف نترك هذا النور لكي نسير في الظلمات، خاصة بعدما قرأنا في كتاب ربنا وما قصه علينا الرحمن من سبب ضلال الأمم السابقة.
وكذلك عليك أن تعلم أيها الحبيب أنه قد يراود عقلك خاطر: "وما المانع طالما كان المقصد خير، فما قصدنا بذلك إلا تعظيم أولياء الله الصالحين".
قلنا لك: أيها الحبيب، أيكفي أن يكون المقصد خير أم لابد كذلك أن يكون العمل على منهاج النبوة؟ فالله -تعالى- قال في كتابه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا) (الكهف:110).
لم يقل فلتكن نيته فقط صالحة، ولكن لا اعتبار للنية الصالحة إلا عندما تكون مقرونة بعمل صالح كان عليه رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
فيا أيها الحبيب، بمن اقتديت، وبمن اهتديت، وبأي حبل تمسكت، وفي أي طريق سلكت