علم الخلاف
مع نشوء علم الفقه علما مستقلا، وبروز علماء متخصصين فيه برعوا واجتهدوا، وأصبحوا للناس أئمة وقدوة، بدأت مع ذلك تظهر بواكير علم الخلاف. هذا العلم الذي تبلور ونضح بين أيدي مقلدي الأئمة الفقهاء وتابعيهم ـ رحم الله الجميع ـ انتصاراً من كل أتباع لإمامهم، وإظهاراً لقوة حجته وصواب استدلاله فيما خالفه فيه غيره، أو تفرد هو فيه.
ومن سوء الفهم إساءة الظن بأتباع الأئمة. إذ ما كان قصدهم من الانتصار للأئمة إلا الانتصار للحق، والبحث عنه، والدلالة عليه. وهذا هو الأمر الغالب والمؤكد.
وانظر ـ رعاك الله ـ إلى ابن خلدون كيف بين فضل هذا العلم فقال: وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه.
تعريف علم الخلاف:
ولقد عرف حاجي خليفة علم الخلاف بقوله: هو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبهة وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية.
وفي حقيقة الحال فإن علم الخلاف ماهو إلا علم متولد من علم المنطق والجدل وعلم الفقه، فهو يأخذ من المنطق مبادئه وقواعده وكلياته وقطعياته، ثم ينطلق بها ليستخدمها في الفقه ومسائله، وبيان قواعد الأئمة وأصول اجتهاداتهم، ودفع الشكوك والشبه التي ترد على مذاهبهم.
منشأ علم الخلاف:
ولعل ظهور مدرستي الحديث والرأي، والخلاف بينهما في نهاية القرن الأول وطيلة القرن الهجري الثاني، وانتصار كل طائفة لرأيها وأدلتها، وحاجة كل مدرسة إلى قطع المعترضين عليها عن الكلام والمناقشة لعل تلك المبررات أوجدت بوادر هذا العلم وبداياته.
لكن الخلاف بين المدرستين خفت حدته كثيراً بعد ظهور كتاب الشافعي (الرسالة) في علم الأصول، هذا الكتاب الذي كان له الفضل في التقريب بين أهل الحديث وأهل الرأي، ومحاولة تضييق الشقة بينهما.
لكن القرون اللاحقة ـ الثالث والرابع والخامس ـ شهدت نضج علم الفقه على أيدي الأئمة المجتهدين الذين برزوا فيه، وكان لهم نشاط علمي واسع، وتلاميذ حملوا اجتهاداتهم، وتشربوا قواعدهم، ونافحوا ودافعوا عن آراء أئمتهم، حتى كتب للمذاهب الفقهية الأربعة البقاء دون سواها بسبب ذلك، وكتب الاندثار على غيرها لعدم تعلق أحد أو سعيه في إبرازها ونصرتها.
ولا شك أن نشاط تلاميذ الأئمة أوجد ووطد دعائم علم الخلاف، بحيث أصبح علماً مستقلاً له كتبه ومؤلفاته، وقواعده وكلياته، وأسبابه ومبرراته.
رأي ابن خلدون في علم الخلاف:
يقول ابن خلدون في ذلك: فاعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافاً لا بد من وقوعه لما قدمناه. واتسع ذلك في الملة اتساعاً عظيما،ً وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا منهم. ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار، وكانوا بمكانٍ من حسن الظن بهم، اقتصر الناس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته وتشعب العلوم التي هي مواده، باتصال الزمان، وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة.
فأقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الملة، وأُجري الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين بأحكامها، مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية. وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كلٍّ مذهبَ إمامِه. تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة. يحتج بها كلُُّ على صحبة مذهبه الذي قلده وتمسك به. وأجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من أبواب الفقه.
ثم يقول ابن خلدون مبيناً فوائد علم الخلاف: وكان في هذه المناظرات بيانُ مآخذِ هؤلاء الأئمة، ومثاراتِ اختلافهم ومواقعِ اجتهادهم. وكان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. ولابد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج المجتهد.
أسباب اختلاف الفقهاء:
وإذا تساءلنا عن أسباب اختلاف الفقهاء... وهل يعقل أن يختلفوا في الحكم الشرعي مع أن الكتاب والسنة أصلان لهما فلنا أن نبحث عن أسباب الخلاف حتى نجد الجواب الشافي.
وقد عدد الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي أهم أسباب الاختلاف بين الفقهاء، وحصرها في سبع نقاط هي كما يلي:
1ـ الاختلاف في الأمور الجبلّية: إذ أن الأئمة والعلماء يتفاوتون في ملكاتهم وطبائعم وعقولهم، وهذا أمر طبعي ينتج عنه في بعض الأحايين اختلاف الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية.
2ـ الاختلاف في اللغة العربية: وهي لغة القرآن ولغة الحديث النبوي الشريف، ولا شك أن علماء اللغة أنفسهم يختلفون في وضع الألفاظ ودلالتها، والأسلوب والصيغ، والمشترك والمترادف، والحقيقة والمجاز، وهذا ما انتقل بدروه إلى علماء الفقه، وأدى بالتالي إلى اختلاف الأحكام.
3ـ اختلاف البيئات والعصور والمصالح: لاشك في أن لذلك أثراً كبيراً في أحكام الشريعة، التي جاءت في الأصل مراعية لمصالح الناس، ومتناسقة مع بيئاتهم وأزمانهم، في فرعياتها بشكل خاص، وفيما يتعلق بالمصالح الدنيوية على وجه أخص. وهذا كله من فضل الله وسماحة الدين.
والخلاف الناتج عن مثل هذه الأسباب يسميه الفقهاء اختلاف عصر وزمان وليس اختلاف حجة وبرهان. وبناء على ذلك وضعت القاعدة الفقهية القائلة: لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
4ـ الاختلاف في فهم المراد من النص الظني: إذ أن المعنى ربما كان خافياً أو محتملاً للتأويل.
5ـ الاختلاف في حجية بعض مصادر التشريع. وذلك عند عدم وجود النص القاطع من كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6ـ الاختلاف في بعض فروع علم الحديث، وذلك كالاختلاف حول تضعيف حديث أو تقويته أو وضع شروط لقبول مراسيل التابعين أو خبر الآحاد ونحو ذلك.
7ـ الاختلاف في القواعد والمبادئ الأصولية، وهذا وارد حيث إن تلك القواعد من وضع العلماء، ولهم فيها اجتهادات علميه وأسباب موضوعية، ينتج عنها تعدد آرائهم فيها، مما يستدعي اختلاف النتائج المبنية عليها.
ومن طرائف هذا العلم ـ علم الخلاف ـ ولكل علم طرائفه، ما قاله صديق بن حسن القنوجي في كتابه أبجد العلوم: نقلاً عن كتاب مدينة العلوم: واعلم أن أول من أخرج علم الخلاف في الدنيا ـ يقصد بذلك أول من ألف فيه تأليفاً كاملاً مع أصوله ـ أبو زيد الدبوسي المتوفى سنة 432 وهو ابن ثلاثة وستين. ناظر مرة رجلاً فجعل الرجل يبتسم ويضحك، فأنشد أبو زيد لنفسه:
مالي إذا ألزمتُه حجةً قابلني بالضحك والقهقهْ
إنْ كان ضحكُ المرء من فقهه فالضب في الصحراء ما أفقههْ
كتب علم الخلاف:
وكتب هذا العلم عديدة كثيرة، وهي في بداية الأمر نشأت تحت مظلة علم الفقه وكانت ملحقة به، كمثل كتاب (اختلاف أبي حنفية وابن أبي ليلى) و(كتاب الرد على سير الأوزاعي)، وكتاب (اختلاف الشافعي مع محمد بن الحسن) وكتاب (اختلاف الشافعي مع مالك) وهي للإمام الشافعي، كتبها بنفسه وألحقها في آخر كتابه الأم وهو مطبوع.
ثم ظهر بعد ذلك الإمام الدبوسي الحنفي، وهو إمام بارع في المناظرة واستخراج المسائل والرأي وإيراد الحجج، ويعتبر مؤسس هذا العلم، فكتب فيه كتابه (تأسيس النظر) وكتابه (التعليقة) في الخلاف.
ومن كتب هذا العلم أيضاً: (النكت) و(تذكرة الخلاف) لأبي إسحاق الشيرازي، و(أحيلة العلماء في اختلاف الفقهاء) لأبي بكر الشاشي الشافعي وله أيضاً (المستظهري) و(المعتمد). وكتاب (التجريد) للقدوري الحنفي و(الطريقة الرضوية) للسرخسي الحنفي و(عيون الأدلة) لأبي الحسن بن القصار المالكي و(التعليق) للقاضي عبد الوهاب المالكي و(الإشراف على مذاهب الأشراف) لابن هبيرة الحنبلي و(المآخذ) لحجة الإسلام الغزالي و(مغيث الخلق في اختيار الأحق) و(الكافية في الجدل) كلاهما لإمام الحرمين الجويني.