دكتور مهندس يحيى وزيرى
منذ أن نبه الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين رحمه الله الى أن مكة تتوسط
اليابسة، فقد انقسم الناس حول هذا الاكتشاف الى فريقين أساسيين مابين مؤيد
ومعارض، وكان وجه الاعتراض قائما نظرا لأن اكتشافه لم يتم اثباته
بالقياسات العلمية الدقيقة.
لذلك فقد حاول بعض علماء المسلمين المعاصرين اثبات ذلك، وكان منهم الأستاذ
الدكتور مسلم شلتوت وذلك عن طريق استخدام برنامجا للحاسب الآلى، لاثبات
توسط مكة المكرمة لليابسة، وبالرغم من هذا الجهد المشكور فظلت العديد من
الاعتراضات قائمة ورافضة لهذه الفكرة، لعدم تقديم القياسات العلمية
الدقيقة من واقع المسافات الحقيقية بين مكة وحدود اليابسة، باستخدام وسيلة
علمية صحيحة ويمكن الاتفاق عليها فى الأوساط العلمية فى نفس الوقت.
لذلك فقد بدأت منذ عدة سنوات فى بحث ودراسة متواصلة من أجل اثبات حقيقة
توسط مكة لليابسة والخصائص التصميمية للكعبة المشرفة، وقد وفقنى الله
سبحانه وتعالى لذلك، وقمت بنشر جزء كبير من هذه الدراسات فى العديد من
المؤتمرات والمجلات العلمية فى القاهرة والمغرب والجزائر والسعودية وقطر،
كما تم نشر أجزاء من هذه الدراسة فى العديد من المواقع الأليكترونية.
ان الهدف من هذا البحث هو اثبات توسط مكة المكرمة لحدود اليابسة، من خلال
القياسات الدقيقة والتى تحدد المسافات الصحيحة مابين مكة المكرمة ونقاط
معينة مختارة على حدود قارات العالمين القديم (آسيا وأفريقيا وأوروبا)
والجديد (الأمريكتين واستراليا والقارة الجنوبية المتجمدة).
أولا: توسط مكة لليابسة عند علماء اللغة والتفسير:
ذهب عدد من علماء اللغة إلى أن سبب تسمية مكة بهذا الاسم هو أنها وسط الأرض، يقول الزبيدي فى كتابه "تاج العروس"(1): «وقيل:
إِنَّ مكة مأَخوذة من المُكاكَةِ وهي اللّبُّ والمُخُّ الذي في وَسَطِ
العَظْمِ، سمِّيَتْ بها لأنَّها وَسَطُ الدُّنْيا ولُبُّها وخالِصُها»,
ويقول في موضع آخر مبيناً سبب تسمية مكة بأم القرى: «وأم القرى مكة - زيدت
شرفاً- لأنها توسطت الأرض فيما زعموا".
وفي ثنايا حديث علماء التفسير المسلمين قديماً عن فضل مكة على سائر
البلدان جاءت الإشارة إلى أن مكة المكرمة تقع في وسط العالم, يقول القرطبي(2): «قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾[البقرة: 143],
المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون
الأنبياء وفوق الأمم, والوسط: العدل, وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها»،
ويقول ابن عطية في تفسيره(3): «وأم القرى
مكة سميت بذلك لوجوه أربعة، منها أنها منشأ الدين والشرع, ومنها ما روي أن
الأرض منها دحيت, ومنها أنها وسط الأرض وكالنقطة للقرى, ومنه ما لحق عن
الشرع من أنها قبلة كل قرية, فهي لهذا كله أم وسائر القرى بنات».
ومن ذلك أيضاً ما قاله أبو حيان في تفسيره(4):«﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾[الأنعام: 92] أم
القرى مكة وسميت بذلك لأنها منشأ الدين, ودحو الأرض منها, ولأنها وسط
الأرض, ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضع للناس»، ويقول النسفي
في تفسيره(5): «وسميت أم القرى لأنها سرة الأرض وقبلة أهل القرى وأعظمها شأناً والناس يؤمونها».
مما سبق يتضح لنا أن بعض علماء اللغة والتفسير، قد فهموا أن مكة المكرمة
تتوسط الأرض اما من المعنى اللغوى لاسمها "مكة" أو الوصف القرآنى لها
بأنها "أم القرى"، أو من خلال فهم وتفسير ماورد فى بعض الآيات القرآنية
التى وردت فى سور البقرة والأنعام والشورى.
ثانيا: توسط مكة لليابسة عند علماء العصر الحديث:
توجد دراستان هامتان أجريتا فى القرن العشرين حول توسط مكة لليابسة، أما
أغلب المقالات والدراسات المنشورة فلاتعدو أكثر من نقل أو تكرار لما ورد
بهاتين الدراستين.
الدراسة الأولى أجريت فى منتصف السبعينيات من القرن العشرين، حيث لاحظ
الدكتور حسين كمال الدين رحمه الله، (الذي شغل درجة الأستاذية لمادة
المساحة في عدد من الجامعات والمعاهد العليا في مصر والرياض) تمركز مكة
المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات، أي أن اليابسة على سطح
الكرة الأرضية موزعة حول مكة المكرمة توزيعا منتظما، وأن هذه المدينة
المقدسة تعتبر مركزا لليابسة(6).
وبالرغم من هذه الملاحظة العلمية الهامة فان الأستاذ الدكتور حسين كمال
الدين لم يقدم الدليل العلمى، عن طريق القياسات العلمية الدقيقة التى تثبت
هذه الملاحظة بشكل قطعي فى ذلك الوقت، ولكن يرجع فضل ابراز هذا الاكتشاف
الرائع فى العصر الحديث لهذا العالم المسلم رحمه الله.
أما الدراسة الثانية فكانت على يد العالم الأستاذ الدكتور مسلم شلتوت فى
التسعينيات من القرن العشرين، وقد كان يعمل أستاذا لبحوث الشمس والفضاء
بمعهد البحوث الفلكية والجيوفيزيائية بمصر، وقد اقتصرت دراسته على استخدام
برنامج أعد خصيصا لذلك باستخدام الحاسب الآلى، لحساب المسافة بين مكة
المكرمة ونقاط قياس محددة على أطراف اليابسة بالنسبة للعالمين القديم
والجديد(7).
وبالرغم من أهمية هذه الدراسة لاستخدامها منهجا علميا واضحا، ولكنها
اقتصرت على دراسة بالحاسب الآلى ولم تعتمد على قياسات حقيقية هذا من جانب،
ومن جانب آخر فقد اقتصرت على اختيار نقاط قليلة للقياس خاصة بالنسبة
لقارات العالم الجديد، كما أن بعض القياسات كانت غير دقيقة
ثالثا: اثبات توسط مكة لليابسة من خلال القياسات وصور الأقمار الصناعية:
من المعروف لكل الخبراء والمتخصصين أنه لايمكن الاعتماد على الخرائط
الجغرافية المعروفة، لتحديد قياسات علمية ودقيقة بين موقعين أو مدينتين
على تلك الخرائط، لأن هذه الخرائط ماهى الا عبارة عن رسم يمثل اسقاط
لقارات العالم، ولايمكن أن يعبر عن المسافات والاتجاهات الحقيقية فى آن
واحد، لذلك فقد استخدمت فى بحثى لاثبات توسط مكة المكرمة لليابسة على
برنامجين يعتمدان على صور الأقمار الصناعية الحقيقية للكرة الأرضية، كما
أن بهما امكانية عمل قياسات دقيقة للمسافات القوسية والاتجاهات بين أى
نقطتين على سطح الكرة الأرضية، وهذه البرامج هى(
أ- جوجل ايرث Google Earthب(9): وهو
برنامج معروف بامكانياته العالية لتحديد المسافات بين أى نقطتين على سطح
الكرة الأرضية بدقة متناهية، من خلال الصور الحقيقية للكرة الأرضية
الملتقطة عن طريق الأقمار الصناعية.
ب- Qibla locator ب (10):
وهو برنامج مصمم خصيصا لتحديد اتجاه القبلة بدقة متناهية من أى نقطة على
سطح الكرة الأرضية، كمايحدد المسافة بين أى نقطة على الكرة الأرضية ومكة
المكرمة (القبلة) بدقة متناهية أيضا، باستخدام صور الأقمار الصناعية.
وهذه البرامج السابقة معروفة ومعتمدة لدى المتخصصين والخبراء فى أنحاء
العالم من الناحية العلمية، ويتم الاعتماد على نتائجها من الناحية العلمية
لدقتها المتناهية