وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره (و هذا فيه تفصيل حسب أقوالهم. فمن فسق منهم الصحابة فلا شك في كفر من توقف في تكفير مثل هذا، كما أفتى شيخ الإسلام في كتابه الصارم المسلول). وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال. وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين:
أحدهما: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقا. فإن الله منذ بعث محمدا وأنزل عليه القرآن وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: مؤمن به، وكافر به مظهر الكفر، ومنافق مستخف بالكفر. ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفار، وبضع عشر آية في المنافقين. وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن كقوله {ولا تطع الكافرين والمنافقين} وقوله {إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا} وقوله {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام. وإلا فهم في الباطن شر من الكفار كما قال تعالى {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وكما قال {ولا تصل على احد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله} وكما قال {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}. وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق، فهذا كافر. ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة. وأول من ابتدع الرفض كان منافقا (عبد الله بن سبأ اليهودي). وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق. ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم (و من الملاحظ أن الرافضة و الباطنية يشتركون في تمجيد الصوفية، حتى قال العلامة ابن خلدون: لولا التشيع لما كان هناك تصوف). ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنا وظاهرا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق. ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقا أو عاصيا. وقد يكون مخطئا متأولا مغفورا له خطأه. وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه. (و هذا بالطبع لا يمنع أن نحكم عليهم إجمالاً -و ليس تعييناً- بأنهم مرتدون). فهذا أحد الأصلين.
والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفرا كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام. فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول. ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه ولما أنزل الله على رسوله. وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: أحدها أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جدا مشهوره، وإنما يردونها بالتحريف. الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع. فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر الإنكار لله. الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها.
لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم لما يوردونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنا وظاهرا. وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة. فهؤلاء ليسوا كفارا قطعا بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطىء المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه. وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة: أن الإيمان يتفاضل ويتبعض كما قال النبي <<يخرج من النار من كان في قلبه مثال ذرة من إيمان>> وحينئذ فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك.
وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب. ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب. ويرون ابتاع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب وإن كانت متواترة. ويكفرون من خالفهم. ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي فيهم <<يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان>> ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما، وكفروا أهل صفين الطائفتين في نحو ذلك من المقالات الخبيثة. (و من حيل الخوارج المعاصرين أنهم يدعون عدم تكفير الدعاة لكنهم يجعلونهم من أهل البدع، و هذا عندهم شر من الكفار الأصليين).
وأصل قول الرافضة أن النبي نص على علي نصا قاطعا للعذر. وأنه إمام معصوم ومن خالفه كفر. وإن المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم وابتعوا أهواءهم وبدلوا الدين وغيروا الشريعة وظلموا واعتدوا. بل كفروا إلا نفرا قليلا إما بضعة عشر أو أكثر. ثم يقولون إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين. وقد يقولون بل آمنوا ثم كفروا. وأكثرهم يكفر من خالف قولهم ويسمون أنفسهم المؤمنين ومن خالفهم كفارا، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة أسوأ حالا من مدائن المشركين والنصارى. ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين ومعاداتهم ومحاربتهم، كما عرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين. ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم. ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة. فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال احدهم أنا سني فإنما معناه لست رافضياً.
ولا ريب أنهم شر من الخوارج. لكن الخوارج كان لهم في مبدىء الإسلام سيف على أهل الجماعة. وموالاتهم الكفار أعظم من سيوف الخوارج: فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون إليهم. و أما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب. والخوارج مرقوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام. (و الغريب في هذا العصر أن كثيراً من الجماعات الإسلامية -كالإخوان المسلمين- تتبرأ من الخوراج لكنها توالي الروافض! فتأمل يا رعاك الله)
وأما القدرية المحضة فهم خير من هؤلاء بكثير وأقرب إلى الكتاب والسنة. لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضا، وقد يكفرون من خالفهم ويستحلون دماء المسلمين فيقربون من أولئك.
وأما المرجئة (و لعل شيخ الإسلام يقصد المرجئة الذين رفضوا أن يشهدون لعلي و عثمان بجنة أو نار، و ليس مرجئة الفقهاء) فليسوا من هذه البدع المعظلة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة. وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة. ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون، تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيرا عن مقالتهم، كقول سفيان الثوري من قدم عليا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك أو نحو هذا القول، قاله لما نسب إلى تقديم على بعض أئمة الكوفيين. وكذلك قول أيوب السختياني من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين. وقد روى أنه رجع عن ذلك. وكذلك قول الثوري ومالك والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين.
وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى ليس له قول ابتدعه، ولكن أظهر السنة وبينها وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع. وقد قال الله تعالى {و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون}. فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم وعليها أصبر والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم والله أعلم.
(مجموع الفتاوى 3\345-358)