د.يوسف القرضاوي
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل بقسطه، جعل الفرح والرَّوح في الرضا واليقين، وجعل الغمَّ والحُزن في السخط والشكِّ"[1]. (صدق رسول الله).
في هذا الحديث الشريف، كشف عن حقيقة نفسية باهرة، فكما أن سُنة الله تعالى قد ربطت الشبع والري بالطعام والشراب في عالم المادة، فإن سُنته في عالم النفس والرُوح، قد ربطت الفرح والرَّوح، وبعبارة أخرى: السُّرور وراحة النفس بالرضا واليقين، فبرضا الإنسان عن نفسه وقلبه وربه، يطمئن إلى يومه وحاضره، وبيقينه بالله وبالآخرة وبالجزاء يطمئن إلى غده ومستقبله.
ومَن غير المؤمن في رضاه عن يومه، ويقينه بغده؟
كما أن سُنة الله تعالى ربطت الغمَّ والحُزن بالسخط والشكِّ، فالساخطون والشاكُّون لا يذوقون للسُّرور طعمًا، إن حياتهم كلها سواد مُمتد، وظلام مُتصل، وليل حالك لا يعقُبه نهار، ولا يُرتقب له فجر ...
قد ربط الحديث النبوي الكريم بين السخط والشك، وهما متلازمان فلا سخط من غير شك، ولا شك من غير سخط.
يقول ابن القيم رحمه الله: (قلً أن يسلم الساخط من شك يُداخل قلبه، ويتغلغل فيه، وإن كان لا يشعر به، فلو فتَّش نفسه غاية التفتيش لوجد يقينه معلولا مدخولا، فإن الرضا واليقين أخوان مُصطحبان، والشك والسخط قرينان متلازمان)[2].
الساخط إنسان دائم الحزن، دائم الكآبة، ضيِّق الصدر، ضيِّق بالحياة، وبالناس وبنفسه وبكل شيء ... كأن الدنيا على سَعتها في عينيه سمَّ الخياط.
إن المؤمن قد يُصيبه الكآبة، وقد يعتريه الحُزن، ولهذا قال الله لرسوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل:70]، {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس:65]، ولكن حُزن المؤمن لغيره، أكثر من حُزنه على نفسه، وإذا حزن لنفسه فلآخرته قبل دنياه، وإذا حزن لدنياه فهو حُزن عارض موقوت كغمام الصيف، سرعان ما ينقعش إذا هبَّت عليه رياح الإيمان. حتى النفوس المُنقبضة، والطبائع المُتشائمة، ينشر عليها الإيمان من ضيائه وإشراقه، فيُبدِّد كثيرا من ظلامها، ويُخفِّف كثيرًا من انقباضها، ويُطارد أسباب السخط والتشاؤم من وجودها.
أما المُرتاب في الله وفي الدار الآخرة، فهو يعيش في ظلام قاتم مستمر، ومناحة دائمة، لأنه يعيش في سخط دائم، وغضب مُلازم، ساخط على الناس، ساخط على نفسه، ساخط على الدهر، ساخط على كل شيء، وقديمًا قالوا: من غضب على الدهر طال غضبه. ولهذا قلنا: إنه في مأتم مستمر، يبكي دائمًا حظَّه، وينعي نفسه، وينوح على دنياه، ويولول على وجوده، كما وصف بعض المرتابين المشككين نفسه، فقال: إنه حزين بعاطفته وتفكيره وسلوكه، وأعصاب الكون والأشياء.
إن شعور الإنسان بالرضا من أول أسباب السكينة النفسية، التي هي سُر السعادة، وفي الحديث: "من سعادة المرء استخارته ربه، ورضاه بما قضى، ومن شقاء المرء تركه الاستخارة، وعدم رضاه بعض القضاء"[3].
فكل أمر مقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه. والسعيد مَن جمع بينهما، وذلك هو المؤمن ...
المؤمن يسأل الله قبل إقدامه على أمر من الأمور أن يهديَه إلى أرشد الأعمال وأهدى السبل، ومن أدعية الاستخارة التي علمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسِّره لي، وبارك لي فيه، وإن كنتَ تعلم أن هذا الأمر-يسمي هذا الأمر- شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به"[4].
المؤمن وحده، هو الذي يغمره الإحساس بالرضا، بعد كل قدر من أقدار الله تعالى، المؤمن يُحس بتلك الحالة النفسية، التي تجعله مُستريح الفؤاد، مُنشرح الصدر، غير مُتبرِّم ولا ضَجِر، ولا ساخط على نفسه والكون والحياة والأحياء من حوله. ومنشأ ذلك رضاه عن وجوده في نفسه، وعن الوجود العام من حوله، ومبعث هذا وذاك، رضاه عن مصدر الوجود كله، وينبوع هذا الرضا ... هو الإيمان بالله رب العالمين.