ناجي احمد محمد السيد عطيه نائب المديرالعام
عدد الرسائل : 6618 العمر : 74 الموقع : القاهره - شبرا - كوبري عبود - ارض ايوب نقاط : 10324 تاريخ التسجيل : 05/05/2010
| موضوع: وداعا يا ابى ........ ( بعد الرحيل ) الخميس 9 أكتوبر - 23:09:45 | |
|
وداعا يا ابتاه !!!!!!!!!!!
«تعال لتسلم على والدك».. أخرجه من شروده صوت عمه وهو يناديه، كان ذلك أحمد ابن الثالثة عشر ربيعا، تسمر في مكانه لحظات، لا يتنفس الحياة فيه سوى قلب يدق صدره بضربات مضطربة. ترك الزاوية التي ظل لصيقا بها منذ أن أخبروه أن والده على متن الطائرة العائدة إلى الوطن، وأنه سيكون بمقدوره ملاقاته خلال ساعات، وهو الذي انتظره أكثر من تسع سنوات ليلتقي به، بعد أن تركهم وسافر سعيا وراء لقمة العيش. اقترب من عمه، الذي شد على قبضة يده، ليسير الاثنان للقاء طارق. لم تكن لطارق أية نية للزواج قبل أن ينهي دراسته الجامعية، لكن أمام إصرار والديه، واستعداد والده للتكفل بكل مصاريف الزواج، لم يجد بدا من الموافقة، خصوصا أنه سيعيش في بيت والده، ولن يكون ملزما بمصاريف بيت مستقل. أكمل دينه، وبعد تعثر دام عامين إضافيين، حمل شهادة جامعية ظنها ذات قيمة، احتفل لبعض الوقت، ثم بدأ مشوار البحث عن عمل يليق به لكن دون جدوى. في ليلة وضحاها أصبح هو رب البيت، بعد أن توفي والده.. تخلى عن حلمه، وعمل نهارا في محل لبيع الملابس الجاهزة، وليلا حارس أمن لمركز تجاري. ألحت عليه فكرة العمل خارج البلاد، رغبة في الحصول على عائد مادي يوفي جميع التزاماته، وعند أول فرصة حزم حقيبته وودع أهله.
غادر وابنه أحمد لا يتجاوز الأربع سنوات من عمره. لم ينس أن يأخذ له صورة قبل السفر تظل معه تؤنسه في وحدته وتخفف عليه أياما طويلة سيقضيها بعيدا عن الأحبة. في الغربة لم يكن الوضع يختلف كثيرا، فعمله لم يتعد عاملا في سوبر ماركت، لكن فارق تحويل العملة والتقشف لأبعد حد كانا كفيلين بأن يرسل مبلغا لا بأس به بداية كل شهر. لم تمض ستة أشهر على تسلمه العمل الجديد، حتى فز من نومه مرعوبا من طرقات عنيفة على باب غرفته، التي كانت في الأصل مخزنا تابعا للسوبر ماركت، اقتاده رجال الأمن وهو يجاهد لطرد النوم والخوف من عقله، ليصحو على اتهام يوجه إليه بسرقة مبلغ من خزينة صاحب المحل! دافع عن نفسه دون جدوى، واستقر به الحال في السجن بتهمة لم يرتكبها ولم يفكر حتى فيها. لم يهون عليه محبسه وشعوره بالمرارة والقهر سوى تلك الرسائل التي كان يتبادلها مع زوجته وأخيه الذي ترك جامعته وحل محله في الاعتناء بأفراد الأسرة. مرت سنوات قبل أن تقع في يده رسالة خطتها يد صغيرة، تأخذ الكلمات مسارات متعرجة، والحروف بالكاد تأخذ سمة الحروف الهجائية: «بسم الله الرحمن الرحيم بابا.. أحبك كثيرا، ومنتظر عودتك إلينا.. ابنك أحمد». قرأ الحروف القليلة وأعاد القراءة ثم أعادها بعينيه ودموعه، وبعد كل قراءة يقرب الرسالة إلى وجهه، يشمها، يقبلها، ويغسلها بدموعه حتى اختفت الحروف وحلت محلها بقع من الحبر الأزرق.. طواها بحذر واحتفظ بها بجانب صورة أحمد التي التقطها له قبل أربع سنوات (آخر مرة رآه فيها). توالت المراسلات بين أحمد وأبيه تباعا، بدأ الخط يتشبث بالسطر أكثر وتقل انحناءاته، تكومت الرسائل على مدى أعوام، حكى كل منهما الكثير للآخر، وتعود طارق أن يعيش تفاصيل حياة ابنه، ضمت إحدى رسائل أحمد صورة له، كان في العاشرة من عمره حينها، أول مرة يرى فيها أحمد بعد أن تركه، بدا كبيرا جدا أو هكذا خيل إليه: شعره الأسود، وجهه الدائري، فمه الصغير، وذقنه الذي كاد يختفي في تدويرة وجهه. تحسس طارق وجهه، يحاول تجميع نقاط الشبه بينه وبين ابنه، لكنه عجز، فهو نفسه ما عاد كما كان.. وأخيرا طبع قبلة طويلة على الصورة قبل أن يضمها إلى صدره ويغيب في حضن طويل: «يا رب».. خرجت واهية من شفتيه المرتعشتين. رؤيته لصورة أحمد زادته شوقا إليه، تمنى لو باستطاعته دك جدران السجن والذهاب إليه ليضمه إلى صدره، يشمه، يلثمه، يصهره ويختزله في داخله، فلا يغادره. ارتعشت يداه وهو يتخيل أحمد يغوص في حضنه، أغمض عينيه وترك المجال لروحه أن تتشرب كل تفاصيل ذلك الجسد الغض.. «طارق.. طارق».. هزات عنيفة أتبعتها رشة ماء بارد أعادته لوعيه. فتح عينيه بصعوبة لتلتقي بالعيون التي تحدق فيه: «يا رجل وحد الله ما الذي حصل؟». قام مفزوعا يبحث عن الصورة التي سحبها أحدهم من يديه قبل أن يفسدها دلو الماء. نام ليلتها شبه غائب عن الوعي، لا يكاد يميز أحدا ممن حوله، ارتفع السكر حتى كاد أن يدخل في غيبوبة أخرى، اعتصر الألم قلبه، تمنى لو عاد الزمان إلى الوراء واكتفى بالعمل أربع وعشرين ساعة، لكن لا يبتعد عن فلذة كبده، ما أقسى الظلم، وما أوحش الغربة، وما أمر الشوق، تتآكل سنوات عمره، ويقتات المرض على روحه وأطراف من جسده، «الغرغرينة» تكاد تنهي أصابعه، وتستمر بالصعود حتى تلتهم قدمه، لم يكن ليصمد أمامها كثيرا، أخذت روحه تتسرب منه، يحاول أن يبقيها في جسده لأجل أحمد، لكن الأجل عاجله، فسلم روحه لبارئها، ليتحقق حلمه بالعودة إلى وطنه لكن جسدا من دون روح! توقف أحمد عن السير، وقف قبالة جسد سجي بكفن أبيض، لا يبدو منه إلا جزء من وجهه، أفلت يد عمه واقترب أكثر، يختلف المسجى كثيرا عن الصورة التي يحتفظ بها في ألبومه الخاص لأبيه، ولا تشبه حتى الصورة التي رسمها له في خياله من خلال كلماته التي تسلمها منه خلال أعوام: «هذا ليس أبي».. قالها وهو يهم بالمغادرة: «أحمد!» كان صوت عمه حازما بما فيه الكفاية ليطرد فكرة الرحيل. عاد مجددا، اقترب من الجثمان فزاد قلبه انقباضا، مسح بكم قميصه دمعة تدحرجت على خديه رغما عنه، جثا على ركبتيه وتحسس وجه أبيه، جبينه، عينيه المغمضتين، شفتيه الجافتين و...: «لماذا؟».. خرجت من حلقه غاضبة متحشرجة بدموع فاضت من عينيه: «لماذا كذبت علي.. قلت إنك ستعود، وسنقضي معا وقتا ممتعا. وعدتني أن تعوضني عن سنوات ابتعادك عني، لماذا لم تعد كما وعدت؟».. كان يهز والده المتصلب بغضب، محاولا إجباره على الإجابة، قول أي شيء يشعره بأن ما يراه ليس حقيقيا. جذبه عمه محاولا ضمه إليه، لكنه دفع به وجرى مبتعدا، أطلق لقدميه العنان دون وجهة، أراد أن يهرب من مشهد يعجز عن فهمه واستيعابه فقط، وأخيرا انتهى به المطاف إلى جدار أحد المنازل، أسند ظهره وانزلق ببطء، بكى كما لم يبك يوما، بكى سنوات عاشها يتيما على أمل أن يكون له أب يوما ما، حرمانا وقهرا ووحدة، بكى كلمات سطرت على الورق رسمت له دربا لمستقبل آمن، لكنه تبخر، بكى شوقا استوطن قلبه بعد كل رسالة من والده تجعله يرغب في عيش يوم إضافي ليستقبل المزيد من أب ليس له وجود سوى على الورق، لكنه كان كفيلا بتخفيف وطأة ابتعاده عنه، وها هو يذهب دون رجعة قبل حتى أن يأتي. يد أمسكت بكتفه، أجبرته على رفع وجهه المبلل بدموعه، فإذا بعمه ينظر إليه معاتبا، جلس إلى جواره، وضع في يده ظرفا لم يُفتح: «مات والدك قبل أن يرسله إليك، أحضروه مع متعلقاته الشخصية». قلب الظرف وفتحه دون تردد، قطب جبينه فهذا ليس خط أبيه، ومع ذلك واصل القراءة «بسم الله الرحمن الرحيم حبيبي أحمد... ككل ليلة أعجز عن النوم دون أن أملأ عيني منك ومن كلماتك وعبيرك وأنفاسك.. أنتظر رسائلك كما ينتظر الغريق طوق النجاة.. لم يهون علي سجني سوى تخيلي لكل لحظة سأقضيها معك حينما أعود: ماذا سنفعل؟ وأين سنذهب؟ وماذا سيقول بعضنا لبعض؟ لكن.. إرادة الله جلا وعلا فوق كل شيء، أردنا شيئا وأراد هو شيئا آخر، قبل أسابيع ودعت قدمي اليمنى أو ما تبقى منها، لحقت بأجزائها التي غادرت على فترات، بالكاد أشعر بمن حولي، ولأول مرة أطلب من صديقي أن يكتب لك ما أمليه عليه، فما عدت قادرا حتى على حمل القلم. أحمد سامحني يا بني، كافحت لأعيش فقط لأجلك، لأكون معك مجددا، لأعوضك عن حرمان سببته لك دون إرادة مني، لكن يبدو أن الله قد كتب علي أن ألقاه أولا.. كن رجلا يا بني، اعتن بنفسك ووالدتك ولا تنسني من صالح الدعاء. والدك المحب. 5 مايو 2011».
طوى أحمد الرسالة، شعر بألم في صدره، راسله والده كثيرا وزادت رسائله في الشهور الأخيرة، لكنه لم يذكر له يوما أمر مرضه، كان والده يتألم دون أن يشتكي أو يحاول إشراكه في ألمه، كان يموت في الوقت الذي يرسم لهما حياة جديدة لم يكتب لها أن تكون، لا يصدق أنه نعته للتو بالكاذب، عاتبه بقسوة لا تقل عن قسوة سنوات سجنه ومرضه: «أريد أن أعود لأرى أبي» قالها لعمه وهو يحاول الوقوف، عاد لوالده وهو يحمل رسالته الأخيرة في يده، هرب من أمامه طفلا قبل لحظات وعاد إليه رجلا يكافح ليبدو متماسكا أمام الجميع، ليحقق أمنية أبيه بأن يكون رجلا، أزاح الكفن عن وجهه كاملا، ظل يتأمله يتخيل اللحظات التي تألم فيها، تحسس وجهه، وانزلقت أصابعه للأسفل وصل للقدم التي ما عادت موجودة، اعتصره الفراغ الذي يحل محلها: «أحبك يا أبي» قالها وانكب عليه يبكي، تركه عمه قليلا ثم سحبه عندما شعر أن ابن أخيه لن يترك والده، انتزعه فشعر أحمد بقلبه يُنزع منه لكنه تحامل على نفسه وتحمل الألم.
انتهت مراسم الجنازة والدفن، عاد أحمد إلى الزاوية التي كان يجلس فيها، أعاد قراءة رسالة والده، مسح دموعه، أودعها قبلة طويلة قبل أن يضمها إليه، نام وهو يعانقها متخيلا أن والده هو من ينام إلى جانبه بعد عودته من سفره الطويل.
| |
|