كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فستدخل علينا أيام مباركة فضَّلها -عز وجل-، واختارها على سائر
الأيام، قال الله -تعالى-: (وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر:1-2)، قال
ابن عباس -رضي الله عنهما- ومجاهد وغير واحد: "هي العشر
الأول من ذي الحجة"، وقال ابن كثير -رحمه الله-: وهو الصحيح؛
لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ)، قَالُوا:
"وَلا الْجِهَادُ؟"، قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ
فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) (رواه البخاري).
- وهي الأيام المعلومات في قول الله -تعالى-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) (الحج:28).
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ): أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ" (رواه
البخاري).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أفضلُ أيامِ الدُّنْيا أيامُ العَشْرِ) (رواه
البزار، وصححه الألباني).
- وفضِّلت هذه الأيام على غيرها ليوم عرفة، كما فضلت ليالي
العشر الأواخر من رمضان لليلة القدر.
وفيها أيضًا: يوم النحر الذي قال النبي -صلى الله عليه وسلم-
عنه: (إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ
الْقَرِّ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، ويوم القر: هو اليوم
الحادي عشر الذي يستقر فيه الحجاج بمنى.
- ومما يزيد هذه الأيام تفضيلاً غفلة كثير من الناس عنها، فعادة
الناس اليوم أنهم يستعدون لشهر رمضان، ويجتهدون في العشر
الأواخر، ولا ينتبهون لفضل غيره كهذا الموسم الفاضل، وما كان
شأنه كذلك فاغتنامه والاجتهاد فيه متأكد، قال -صلى الله عليه
وسلم-: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيّ) (رواه مسلم). والهرج:
وقت الفتن واختلاط الأمور.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ
الصَّلاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ) (رواه مسلم)، فينبغي أن نبتعد عن وصف
الغفلة كما قال الله -تعالى-: (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)
(الأعراف:205)، وأن ننتبه لفضل هذه الأيام المباركات، وأن نغتنمها
كما ينبغي، والله المستعان.
ولعل السبب في تفضيل هذه الأيام على غيرها ما قاله ابن حجر
-رحمه الله-: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة
لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام،
والصدقة، والحج، ولا يأتي ذلك في غيره" اهـ.
ومن فقه هذه الأيام:
1- شكر الله -تعالى- وحمده على أن مد في أعمارنا حتى أدركنا
هذه الأيام الفاضلة؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح
يقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَىَّ رُوحِي وَأَذِنَ
لِى بِذِكْرِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا)
(رواه مسلم).
فطول العمر في طاعة الله نعمة، وخير الناس من طال عمره
وحسن عمله، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟"، قَالَ : (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ) (رواه أحمد
والترمذي، وصححه الألباني).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ ثََلاثَةً أَتَوْا النَّبِيَّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْلَمُوا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ يَكْفِينِِيهِمْ؟)، قَالَ طَلْحَةُ: "أَنَا"، قَالَ: فَكَانُوا عِنْدَ
طَلْحَةَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْثًا فَخَرَجَ فيه أَحَدُهُمْ
فَاسْتُشْهِدَ، قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا فَخَرَجَ فِيهِ آخَرُ فَاسْتُشْهِدَ، قَالَ: ثُمَّ
مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ الَّذِينَ
كَانُوا عِنْدِي فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ، وَرَأَيْتُ
الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَخِيرًا يَلِيهِ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَوَّلَهُمِ آخِرَهُمْ،
قَالَ: فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟! لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ
فِي الإِسْلامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ) (رواه أحمد، وحسنه
الألباني).
2- تجديد التوبة: فالتوبة وظيفة العمر كما قال ابن رجب -رحمه
الله-، والله يحب التوابين ويفرح بتوبة عبده، والواحد منا في حاجة
مستمرة للتوبة، وهذا باب السعادة للعبد إن وفق له.
3- الصوم فهو من أفضل الأعمال، وقد كان -صلى الله عليه وسلم-
يصوم التسع كما قالت بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ،
وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.." (رواه أبو داود، وصححه
الألباني).
ويستحب استحبابًا شديدًا صوم يوم عرفة لغير الحاج؛ فإنه يكفر
ذنوب سنتين: ماضية ومستقبلة، قال -صلى الله عليه وسلم-:
(صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ
وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ) (رواه مسلم).
4- الصلاة: فهي خير موضوع، وهي راحة وقرة عين، ونور وحياة،
وطمأنينة، وحفظ وصيانة.
5- كثرة ذكر الله: امتثالاً لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ
أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلاَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ
فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ) (رواه أحمد، وحسنه
الحافظ ابن حجر، وصححه الشيخ أحمد شاكر).
6- الصدقة: فقد قال الله -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (البقرة:245), وقال -صلى الله
عليه وسلم-: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) (متفق عليه).
7- الحج: لمن استطاع إليه سبيلاً فإنه من أفضل الأعمال، وقد
قال -صلى الله عليه وسلم-: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا
يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه
وسلم-: (وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ) (رواه البخاري
ومسلم).
وأما من عجز عنه فقد جعل الله -تعالى- أعمالاً صالحة يتقرب فيها
إلى الله -تعالى- في هذه الأيام وغيرها ينال بها ثواب الحج.
- من ذلك: شهود الجمعة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ
اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ؛ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً)
(متفق عليه).
وقال سعيد بن المسيب: "هو أحب إليَّ من حجة النافلة".
- وشهود الجماعة وصلاة الضحى: فقد قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: (مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ
كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لاَ يَنْصِبُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ
فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).
- وصلاة الصبح في جماعة، والمكث في المصلى حتى طلوع
الشمس ثم صلاة ركعتي الضحى، عن أنس -رضي الله عنه- قال:
قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ
يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ
حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (تَامَّةٍ
تَامَّةٍ تَامَّةٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
الذهاب إلى المسجد لتعليم أو تعلم خيرًا بنية خالصة، وعن أبي
أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ
لا يُرِيدُ إِلا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمَهُ؛ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًا حَجَّتُهُ)
(رواه الطبراني في الكبير، وقال الألباني: حسن صحيح).
8- الأضحية: وهي من شعائر الإسلام العظيمة التي نتذكر فيها
توحيد الله -تعالى-، ونتذكر نعمة الله -تعالى- علينا، وفيها توسعة
على الناس يوم العيد.
- وهي أولى من التصدق بقيمتها وأفضل، قال أحمد: "العقيقة
أفضل من الصدقة بقيمتها".
قال ابن المنذر: "صدق أحمد، إحياء السنن واتباعها أفضل".
وقد ورد فيها من التأكيد في الأخبار التي رويناها ما لم يرد في
غيرها؛ ولأنها ذبيحة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بها، فكانت
أولى كالوليمة والأضحية.
- ولا يجوز لمن أراد أن يضحي ودخل هلال ذي الحجة أن يأخذ من
شعره وأظفاره شيئًا؛ لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ
أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا) (رواه
مسلم).
9- لا ينبغي الغفلة عن يوم العيد وأيام التشريق، فقد قال -صلى
الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ
النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ)، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح
مسلم: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ)، وزاد في رواية: (وَذِكْرٍ
لِلَّهِ).
والله المستعان، والله -تعالى- أعلم.